نسج الكاتب والمؤلف المصري عبدالرحيم كمال عالما متكاملا في مسلسل عرضته فضائيات مصرية في موسم رمضان الماضي أسماه “جزيرة غمام”، رسم شخصياته وأحداثه بعذوبة بالغة، واستخدم لغة رمزية وصوفية جذبت الانتباه، ولجأ إلى توظيف إسقاطات سياسية ودينية واجتماعية على الواقع الراهن.
لم يكتف كمال بذلك، بل سلّط الضوء على الصراع الأزلي بين رجال السلطة والدين وأصحاب المصالح ومعاناة سكان إحدى القرى أو الجزر المأهولة بالسكان في مصر بين المتصارعين على السلطة وبين المتشددين، ما جعل العمل بشخوصه وأفكاره صالحا لأيّ زمان ومكان، وينطبق على كل سلطة سياسية أو دينية.
حمل المسلسل الذي أثار اهتمام الكثير من النقاد صبغة متناغمة جمعت بين عدد كبير من المتناقضات في عمل درامي واحد، وخرج كحدوتة صادقة تضم تأويلات متباينة، واحتفى بالمحبة والتسامح أساس كل الأديان وجوهر القرب إلى الله.
إسقاطات ورموز
"جزيرة غمام" تضمن إشارات إلى تجديد الخطاب الديني بطريقة بسيطة تصل إلى المتلقي دون تعقيد وأسلوب غامض
في حواره مع “العرب” يكشف عبدالرحيم كمال أنه رسم عالما خاصا اسمه “جزيرة غمام”، إذ لا يمكن مناقشة وصناعة عالم دون سياسة وتدين وسياق ومجتمع يتعلق بالجزيرة، هو عالم صنعه ويتوجب ألا يكون ناقصا، لذلك كان لا بد أن يحمل وجهة نظر في الدين والسياسية، فهو كاتب يطرح رؤيته ولا ينحت أو يقتبس موضوعا لمجرد أن يشاهده الجمهور.
ويضيف “راودتني الفكرة منذ نحو عامين وكنت أعتزم كتابة مسلسل آخر يعرض في رمضان الماضي، لكن بعد كتابة حلقتين لم أجد نفسي مقتنعا به، واقترحت فكرة ‘جزيرة غمام’ وأعجبت الجهة المنتجة بها، وكتبت أول خمس حلقات في أسبوع من شدة حبي للفكرة وانتمائي إليها”.
جاءت بداية الأحداث بظهور الرئيس المصري الراحل أنور السادات في زيارة تخيلية إلى الجزيرة، التي وضع أهلها حكايتها في كتاب وأهدوه إلى السادات أثناء زيارته لهم، وكان ظهوره مهما ورمزيا، لأنه الحاكم الذي أحيا التيارات الدينية المتشدد ليحارب بها خصوصه السياسيين، لكن هذه التيارات هي التي اغتالته لاحقا في أكتوبر 1981، ثم عاد المسلسل على طريقة “فلاش باك” أو الاسترجاع إلى توقيت الأحداث في المسلسل، إلى العام 1914.
فسر كمال هذه الرمزية بقوله “يضم المسلسل، حاكما دراميا ضمن الأحداث هو ‘عجمي’، وجسّده الفنان رياض الخولي، وهو حاكم أراه عادلا وفقا لظروف زمنه، وحاكما تاريخيا هو ‘الخديوي عباس حلمي الثاني‘، ووفقا لما ورد إلينا من التاريخ كان عاشقاً لمصر لدرجة أن الإنجليز عاقبوه ونفوه، وحدث إعلان الحماية البريطانية على مصر بعدها، والخديوي عباس والسادات كانا محبين لمصر واغتيل الأخير بيد المتشددين، فكان العمل في مديح الحكام المحبين لمصر الذين عاقبهم التشدد بالقتل”.
حفل العمل الدرامي بالكثير من التأويلات والإسقاطات والرمزية، والتي تتمثل في الشيخ محارب، وهو رجل دين متشدد يسعى للسيطرة والسلطة، ويسري الشيخ الذي يلجأ إلى الدجل والنفاق، وعرفات وهو الشيخ الزاهد التقي الذي يبتغي محبة الله.
يقول كمال لـ”العرب”، “ببساطة أصل الدين الإسلامي هو النقاء والحب كما تجسد في شخصية ‘الشيخ مدين‘، لكن تأويل الدين جاء عبر أبنائه، من هنا تولدت المشكلة، فمنهم من أوّل الدين تأويلا ظاهرياً متشددا مثل محارب، ومن أوله تأويلا باطنيا متساهلا مثل يسري، ومن أوله تأويل حقيقيا أقرب إلى الصدق، وهو عرفات الذي لم يخلط الدين بالسلطة”.
تطغى الروح الصوفية على غالبية أعمال عبدالرحيم كمال وتجلت بوضوح في "جزيرة غمام" بعالمه الصعيدي الساحر
ويفتح مسلسل “جزيرة غمام” الباب على مصراعيه أمام تأويل أحداثه وشخصياته لأن النص يحمل ظلالاً من التاريخ والتراث والمعاني الروحانية، منها أن عرفات، وجسده الفنان أحمد أمين يرمز إلى المسيح، وخلدون، وجسده الفنان طارق لطفي، وهو تعبير عن الشيطان، والعايقة، وقامت بدورها الفنانة مي عزالدين، هي رمز لمريم المجدلية، أو هي الدنيا بفتنتها وغوايتها.
ويوضح الكاتب المصري أن عرفات يمثل الخير وكل روح صافية وقوة إيجابية، وكل من ينتصر للحق لا لنفسه، فتجد ظلاله في كل الأنبياء، سواء سيدنا المسيح عليه السلام أو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو ليس مرجعية، لكن مرجعيته الصلاح والصدق مع النفس، له أصل في كل الصالحين وكل شخص طيب.
ويتابع “الناس تعتقد أن الطيبة شيء استثنائي غير موجود والأشخاص الذين منحهم الله النور غير موجودين، بينما هم موجودون طوال الوقت وإلى قيام الساعة، وقد عرفتهم وقابلتهم، ونريد أن نزرع الخير والنور في الناس، وألا ييأسوا من رحمة الله، فهي مجسدة وليست موجودة فقط في كتب السيرة والأنبياء، وقد حدث أمر أرّقني وأصابني بالضيق السنوات الأخيرة وهو أن الدراما أصبحت ترتبط بالشر، وهي تقع في المنطقة الرمادية بين الشر والخير ونوازع البشر، وموضة دراما الشر سيئة وغير حقيقية وكان لا بد أن يكون هناك ما يرد الدراما إلى أصلها”.
ويضيف كمال في حديثه حول تأويلات العمل “يرمز عرفات إلى الخير، وكل ما هو نوراني، فلم يخرج في شكل منزه وتعرض للفتنة والاختبار كأي إنسان، ويرمز خلدون إلى كل ما هو قوى سلبية وشريرة، قد يكون تأويله أنه الشيطان أو قوى شريرة، وثمة تأويل مختلف أنه قد يكون قوى استعمارية، أما العايقة، لماذا لا تكون رابعة العدوية، فكل شخصية من هؤلاء مشبعة بأرواح عشقها الناس، وكلما تعددت التأويلات زاد عمر النص والمسلسل”.
الدكتاتور العادل
حاز أداء الفنان رياض الخولي لشخصية عمدة القرية (عجمي) إعجابا كبيرا على المستويين النقدي والجماهيري، وجسد شخصية الحاكم الذي يجعلك تقع في حيرة من أمره خصوصا في بداية الحلقات، فيجعلك تتساءل هل هو عادل أم ظالم، قاس أم لطيف المعشر وعاشق ومحب وضعيف أمام من يحبهم، فكان يبدو مثل الدكتاتور العادل، المهموم بالجزيرة وأهلها والضعيف أمام أحبابه سواء زوجته هلالة أو ابنته.
ويشير كمال في حديثه لـ”العرب” إلى أن “عجمي حاكم عادل وفقا لعصره وزمنه منذ أكثر من مئة عام خصوصا في الصعيد، فهو لا ينام الليل لأن مواطنة بسيطة كفيفة عجوز تم قتل حفيدتها، ويناديه معظم أهل قريته باسمه دون لقب، فهو نموذج للحاكم البسيط قد يغضب أو يتعصب لأنه لا يريد خروج الأوضاع عن العرف ويلجأ إلى عقاب من يخرقون القانون المتعارف عليه”.
استخدم المؤلف لغة وحوارا ساحرين بين الأبطال خصوصا الحوارات التي جمعت عرفات وخلدون، وهي سمة خاصة تميز أعمال عبدالرحيم كمال باستخدام لغة خاصه في أعماله وأبطاله، ظهرت من قبل في مسلسل “الخواجة عبدالقادر”.
وعن ذلك يقول الكاتب لـ”العرب”، “غرقت في تفاصيل وسمات الشخصيات فجعلتها تنطق، وأنا دائما أجعل الشخصيات تحادثني كي أعرفها وأستنبطها، ولكل شخصية لغة خاصة حتى المختلفة عن حوارات في أعمال سابقة، وفي ‘جزيرة غمام‘ كنت غارقا في النص وتركت كل شخصية تتحدث على سجيتها فخرجت اللغة بهذا الشكل، والنص محمّل بالتراث والتاريخ والأفكار الدينية، من ثم فاللغة ليست سهلة، وفرض النص عليّ استخدام لغة ملائمة على قدر ما أحكيه”.
وتضمن مسلسل “جزيرة غمام” إشارات إلى تجديد الخطاب الديني بطريقة بسيطة تصل إلى المتلقي العادي دون استخدام مصطلحات مبهمة وأسلوب غامض، وظهر الشيخ محارب، وجسده الفنان فتحي عبدالوهاب، نموذجا للتشدد الديني، وهو التأويل المتطرف لكل دين في كل عصر والجاف للمتشدد الذي لا يرى في الموضوع إلا تخويف البشر من العقاب الإلهي وليس دعوتهم إلى طاعة الله ومحبّته.
وتحفظ كمال على استخدام مصطلح “تجديد الخطاب الديني”، قائلا “أؤمن بتجديد الخطاب الروحي، فالأول قديم ومقدس ويتحفظ الناس على كلمة تجديد الخطاب الديني لأن الكتب السماوية تجديدها في التأويل، لذلك فتجديد الأرواح بطاقة إيجابية يجعل الناس يصدقون أنفسهم وقدراتهم”.
ويضيف “شخصية عرفات ليست اختراعا، فالإنسان بمفرده سر وتجديد الروح تجديد للمجتمع بأكمله، وأسعى ليجد الناس أنفسهم بعد مشاهدة العمل وروحهم أكثر جمالا، فصاحب الروح الأصفى لا يمكن الخشية منه ولن يكون إرهابيا يوما ما، وهذا هو التجديد الحقيقي، لكن تخويف الناس من تجديد الخطاب الديني يتسبب في سوء تفاهم كبير، لذا لنجعل أنفسنا خلف تجديد الخطاب القلبي، لأنه يصنع الأعاجيب”.
وقدم عبدالرحيم كمال رجل الدين بكل أنماطه وأشكاله المختلفة، فيقول “اهتممت بمفهوم رجل الدين لأنني أراه سلطة قلبية، هو الرجل الذي لا يريد سلطة لكن يريد نفوسا صافية، هو رجل بلا غرض، وعندما يكون رجل الدين رتبة أو سلطة أو كرسي حكم تظهر المشكلة، والجزيرة تحتاج قلبا، وإقحام الدين في الصراع والسلطة هو المفسد، لأن الدين أكثر قداسة من ذلك”.
خادم في مديح المحبة
تطغى الروح الصوفية على غالبية أعمال عبدالرحيم كمال وتجلت بوضوح في “جزيرة غمام”، وعن ذلك يقول “يمكن ملاحظة شيء شديد الخطورة في هذا النص، أنه لم يكن في مديح الصوفية فقط، بل انتقدها، وهاجم الصوفية المفتعلة، فالشيوخ الثلاثة ضمن الأحداث مريدون للشيخ مدين، والثلاثة يحملون المسبحة ويبدو أنهم متصوفة لكن أيّ تصوف؟ نحن نتحدث عن التصوف النقي المتمثل في عرفات، فالشيخ يسري متصوف ويقوم بعمل أحجبة ويفك المربوط للسيدات، لكنه تصوّف مرذول، فالصوفية ليست كلها على إطلاقها جيدة”.
ويوضح أنه ليس عرّابا للصوفية ولا يحملها لافتة لكنه خادم في مديح المحبة والنقاء، والمحبة لها شروط، وليس كل من يدّعي الصوفية صوفيا، وهاجم الصوفية الخاطئة الخالية من المحبة، والتي تحتوي ادعاء وغرضا.
وجاءت أجواء العمل غرائبية بين التراث والأسطورة، والخيال الممتزج بالواقع، إذ يؤمن كمال أنهما لا ينفصلان، وربما هما شيء واحد.
وحول اختياره هذه الأجواء، يقول “طالما اتفقت مع الجمهور على تقديم عالم جديد له، لا بد أن يكون لهذا العالم سماته وصفاته، ويميل هذا النص إلى هذا النوع من الخيال لكنه في النهاية ليس فانتازيا، بل يتحدث عن شخص زاهد وعابد، ومن ثم فهو ليس مفرطا في خياله، هو باختصار واقع يصنعه الخيال”.
ويعدّ الصعيد ركنا أساسيا في العالم الدرامي عند عبدالرحيم كمال، وهذا ليس غريبا فهو الذي عاش جزءا كبيرا من حياته في سوهاج، جنوب القاهرة، وقدم صعيدا خاصا به، صعيدا ساحرا وغير نمطي دون اللجوء إلى نمطية سهلة عن سكان جنوب مصر، غاص في أعماق شخصياته وأماكنه، وقدم شكلا مختلفا تجلى في أعمال مثل “الرحايا ” و”شيخ العرب همام” و”الخواجة عبدالقادر” و”يونس ولد فضة” وحتى “جزيرة غمام”.
وجاءت رمزية البحر في المسلسل كبيرة لأنه مفتوح ومطلق وله علاقة بالرزق والأنبياء وأشياء كثيرة، فكرة أن الجزيرة مغلقة وتطل على ما هو مطلق عظيمة، فالبشر في “جزيرة غمام” يعيشون في مكان محدود وأمامهم يوميا بحر مطلق فكأن هذه القلوب والنفوس محصورة داخل جسد صغير وداخلها روح مطلقة.
وغالبا ما يُقدم الصعيد بوصفه عالما قاسيا على الدوام، بينما في “جزيرة غمام” قدّم كبشر لينين، الحب والمشاعر ضمن حياة الناس، ويفسر الكاتب ذلك بقوله “من يعيش بجوار الجبال ليس كمن يعيش على ساحل البحر، فسمات أهل البحر مختلفة، والصعايدة ليسوا قالبا أو نمطا واحدا، فهم ليسوا طوال الوقت عصبيين أو ضيقي الأفق، وليس الثأر قضيتهم الأساسية، هي صورة نمطية غير صحيحة، فهناك صعايدة قلوبهم ممتلئة بالطيبة، جرى تصويرهم في إكليشيهات على مدار سنوات”.
هوية درامية
حالات قليلة ارتبط خلالها الجمهور باسم كاتب العمل الدرامي، وظهر فيها الكاتب هو النجم، وحدث ذلك مع نماذج محدودة بينهم وحيد حامد وأسامة أنور عكاشة، وانضم إليهم من الأجيال الحالية عبدالرحيم كمال بسبب قدرته على خلق هويته الخاصة وإضفاء بصمته المميزة، ربما يعود أيضا لارتباط الجمهور بقصصه وأفكاره وحواراته، فهو يكتب قصصا تخصه وتنتمي إليه ويكون الجمهور قادرا على التعرف على أعماله ولو من دون اسم.
ويؤكد كمال لـ”العرب”، “هذا عهد بيني وبين الجمهور الذي لم يعد بالنسبة إليّ كيانا غريبا أعرض عليه مسلسلي من حين إلى آخر، بل أصبحت أبوح له بأسراري، وأحكي له ما تيسر داخلي من حكايات، ويفاجئني بأنه قد فهمها واستوعبها وأشاد بها، هناك قول رائج أن المثقف لا بد أن ينزل إلى الجمهور وأراها مقولة خاطئة، لأن قدرة الجمهور المصري خصوصا والعربي عموما على التلقي كبيرة، يحتاج من يصعد إليه، وعلى مدى عمري هناك أسرار ومحبة بيني وبينه وأبوح بأسراري فتصل إلى قلوب الناس سريعا”.
ويقول نقاد إن “جزيرة غمام” حمل روحا مثالية صعبة التحقيق في الواقع، وأن ثمة ظلما وقع على الشيخ الزاهد عرفات بمنحه السبحة فقط عندما منح الشيخ مدين عند وفاته منزله ليسري، ومنزلته ومكانه لمحارب كشيخ للمسجد والجزيرة.
يذكر كمال في حواره مع “العرب” أنه ليس ظلما بل هي محبة عظيمة من الشيخ مدين لأنه يعلم أنه منحه السبحة لتدور الحكاية للوصول إلى الحقيقة في النهاية، لأنه لو أعطى أكثر من ذلك لاختلف الموضوع، وما سمح إخوته أو المريدون بذلك، وما كانت الحكاية لتكتمل، لكنه يعلم أن السر في رضا عرفات والسبحة التي منحها له فهو أكرمه وأعطاه أغلى ما يملك، من يريد البيت والصوت العالي فليأخذه، لكنه أعطاه إرثه الحقيقي سره، وهو الشيء الأسمى.