دخلنا كما يبدو مرحلة متقدّمة من استسهال التخوين والتهديد والاتّهام بالعمالة وفيها سباق على إطلاق الاتهامات جزافاً لكل رأي مخالف ليلاقيه القضاء بإجراءاته إنصياعاً أو إرباكاً فتكون النتيجة إمعان فاضح وواضح في كمّ الأفواه وتهديد حرية التعبير التي لطالما تغنى بها لبنان لكن الملفات باتت تأخذ منحى شائكاً مع تصنيفه تحت خانة العمالة.
وفي فصول إنحلال الدولة وسقوطها في الفشل التام، الإخبار الذي رفعته هيئة ممثّلي الأسرى والمحرّرين، ضد الصحافية ليال الاختيار أمام المحكمة العسكرية على خلفية مقابلة أجرتها مع الناطق الرسمي بإسم الجيش الإسرائيلي افيخاي أدرعي. تبلّغت الإعلامية اللبنانية صدور مذكّرة بحث وتحرٍ بحقها من قبل النيابة العامة العسكرية في لبنان، في خطوة وصفتها الإختيار بأنها اضطهاد سياسي سافر، بأسلوب القمع القضائي، وهي لا تمت الى الحق والحقيقة والعدالة بصلة."
محاولة ترهيب لن تمرّ!
ليست قضية ليال الأولى من نوعها والوحيدة في عام 2023، في حقّ صحافيين وإعلاميين وغيرهم، فقد وثّقت "منظّمة العفو الدولية" أكثر من 10 حالات استدعاء للتحقيق في مكاتب المراكز الأمنية والعسكرية فقط خلال 2023.
وفي هذا السياق، قالت الإعلامية ومقدّمة البرامج ديما صادق في اتصال مع "جسور": "واضح أن السلطة في لبنان تنقضّ على ما تبقى من الحريات الإعلامية في لبنان، وما يحصل مع ليال ومع غيرها من العاملين في الجسم الإعلامي لا يجب أن يمرّ مرور الكرام"، داعية إلى "التحرّك الفوري والجدي لوقف هذا التعدي السافر بحق الإعلاميين اللبنانيين."
رفضاً للقمع ومحاولات كمّ الأفواه، وقفة تضامنية دعت إليها جمعية "إعلاميون من أجل الحرية" الثلاثاء في ساحة سمير قصير ويقول الصحافي والمحلل السياسي، أسعد بشارة، إنّ "جمعية "إعلاميون من أجل الحرية" دعت الى هذه الوقفة لأنّ التخوين الذي يُمارس ضد الإعلاميين والنخب في لبنان من قبل فريق حزب الله والممانعة تحوّل إلى إجراءات قضائية ظالمة غير قانونية وتعسّفية طالت الإختيار عبر تسطير مذكّرة بحث وتحر من المحكمة العسكرية."
وأضاف بشارة لـ "جسور"، أنّ "هذا الإجراء يعكس نيّة تهديدية ويريد كمّ الأفواه ولا يَقبل بوجود أي رأي مختلف في لبنان، وهذا يناقض صورة وطننا، لذلك سندعو غدا هذه المحكمة إلى التراجع عن هذه المذكّرة، وسنوجّه رسالة إلى الرأي العام كما القضاء اللبناني بضرورة حماية الحريات وفقا لما نصّ عليه الدستور وسنكون كجسم إعلامي موحّد لإيصال رسالة واضحة من بيروت مفادها أنّ محاولة الترهيب مرفوضة ولن تمرّ."
واعتبر بشارة أنّ "القرار الانتقامي للمحكمة العسكريّة، هو استمرارٌ لخطاب التخوين، الذي تعرضت له مجموعة من الإعلاميين اللبنانيين، لمجرد أنهم عبروا عن آرائهم السياسية"، مشيرا إلى أنّ "القرار لا يمكن تصنيفه، إلا في خانة المهزلة القضائية، لا سيما وأن الكثير من الإعلاميين اللبنانيين، حاوروا في مؤسساتهم الإعلامية مسؤولين إسرائيليين، وهم جميعاً مع الزميلة الاختيار، يؤدّون مشكورين ما تقتضيه مهمتهم، تسليطاً للضوء على قضية الشعب الفلسطيني، وتغطية لمجريات الحرب على غزة. "
خطر على الحريات الإعلامية
ويشير المسؤول الإعلامي في مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية "سكايز"، جاد شحرور، إلى أن "لغة التخوين مرفوضة، والتعرض للصحافيين في لبنان ليس جديداً وأخذ أكثر من شكل، منها اعتداءات بالضرب أثناء تأدية عملهم، واستدعاءات وتحقيقات غير قانونية، وحملات كراهية وصلت إلى حد التحريض والتهديد فقط بسبب آرائهم."
ولفت في حديث لـ "جسور" إلى أن "بعض الأحزاب اللبنانية بات يمارس الاضطهاد العلني والمفضوح ضد الصحافيين والناشطين المعارضين لسياستها، بسبب غياب المحاسبة وعدم قيام القضاء بواجبه بملاحقة الأشخاص الذين ينتهكون الحق بحرية الرأي والتعبير"، مطالباً "بضرورة أن تكون هناك آليات فعالة لحماية الصحافيين، التي برأيه تبدأ بمواجهة "المنظومة" الحاكمة التي تحمي المرتكبين وتسهم بتوسّع ظاهرة التفلّت من العقاب."
وأضاف أنه "بالنسبة إلى حملة التخوين تجاه الإعلاميين والصحافيين والناشطين والسياسيين المعارضين لـ "حزب الله"، هي خطرة لأمرين، الأول ترسيخ لغة التخوين بشكل أو بآخر والاستسهال بالتخوين، علماً أن الدستور اللبناني وقوانينه تجرم التخوين لاستخدام هذا المصطلح، معتبراً أن كثرة تلك الحملات الممنهجة تعكس تراجع مستوى الديمقراطية في لبنان".
أما الأمر الثاني برأيه فيعكس مشهداً خطراً، هو "إضافة إلى ترهيب الصحافيين الذين يختلفون مع "حزب الله"، مزج تلك الاتهامات بـ "البيئة" الشيعية التي ينتمي إليها الحزب، وكأنه يقول لجمهوره انتبهوا إن كنتم ستعارضونني يوماً ستواجهون بحملات مماثلة وأقسى"، موضحاً أن "الحزب عبر جيشه الإلكتروني يرهّب ويهدّد جمهوره قبل أن يكون تهديداً لأي جمهور آخر مختلف عنه في السياسة".
وبينّ شحرور لـ "جسور"، أنّ هذا "الترهيب الذي يُمارس ليس الأول من نوعه، خصوصا من قبل الجيوش الإلكترونية التابعة للأحزاب كحزب الله، الذي رأينا نشاطه ضد الصحافي والناشط السياسي لقمان سليم (اغتيل عام 2021 داخل سيارته في جنوب لبنان)، والمحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، وكل من يتحدّث عكس مزاج هذا الحزب"، مشيرا إلى أنّ "تهديد الصحافيين ليس سببه حزب الله فقط، فكثيرة هي الأحزاب التي هدّدت العديد من الصحافيين والإعلاميين في لبنان منهم "التيار الوطني الحر" مثلا."
وأكد شحرور أنّ "حرية التعبير في لبنان ليست بحاجة فقط إلى قانون، بل إلى ذهنية وثقافة سياسية لفهم دور الصحافي الذي يحق له أن يسأل ويكشف عن ملفات فساد"، لافتا إلى أنّ "ملف ليال الإختيار شائك أكثر كونه صنّف تحت خانة العمالة، ومن هنا تم استدعاؤها من قبل المحكمة العسكرية، مع العلم أنّه لا يحق استدعاء الصحافيين إلا من قبل محكمة المطبوعات."
"قضاء مُسيَّس"
وتُعدّ الاختيار من أبرز خصوم "حزب الله" في الإعلام، وغالباً ما تنتقد الحزب، في تغريداتها ومواقفها السياسية، وتتعرض لمضايقات واتهامات بـ "التطبيع مع إسرائيل"، وصولاً إلى حملة سياسية وإعلامية شُنّت ضدها وضد إعلاميين آخرين من خصوم الحزب ومنتقديه، حيث انتشرت ملصقات في منصة "إكس" تتهمهم بالمشاركة في قتل أطفال غزة، وهو ما واجهه الإعلاميون المستهدَفون بالحملة، بالاستنكار والرفض، معتبرين أن الحملة تسعى لإسكاتهم عن انتقاد الحزب وإيران.
واللافت أن الإخبار قُدّم ضدّها وحدها، ولم يجرِ تقديمه ضد آخرين من إعلاميين لبنانيين يستقبلون أدرعي على الشاشات العربية، وبينهم زملاء لها في قناة "العربية"، مما دفع لاعتقاد أن الحملة على الاختيار "ذات خلفية سياسية"، وهو ما برز في مواقف القوى السياسية والأحزاب التي تضامنت معها، وأشارت إليه النائبة بولا يعقوبيان بشكل مباشر.
ورأت يعقوبيان أن "من المعيب أن تُمنع ليال الاختيار من دخول بلدها عبر استخدام ما يُعرَف بالقضاء". وأضافت: "واضح أن الموضوع لا علاقة له بتطبيق القانون، إنما هو انتقام من موقفها السياسي المعارض لحزب الله."
وذكرت يعقوبيان أن "أغلب الصحافيين اللبنانيين، الذين عملوا في الفضائيات العربية والدولية، قابلوا إسرائيليين في جزء من تغطيتهم الأحداث، ولم تجرِ ملاحقتهم. هذه نتيجة قضاء مُسيَّس مسيطَر عليه من الطبقة السياسية".