عربي ودولي

"المدينة الضائعة" مجسم فني يؤرّخ لانفجار بيروت
اختار فنانون لبنانيون متخصّصون في صناعة المجسمات الصغيرة تجسيد كارثة انفجار مرفأ بيروت في مجسم صغير من أجل تأريخ الجريمة وتخليد ذكرى الضحايا ومساعدة المتضررين ماليا.

وخلّف انفجار العاصمة اللبنانية في الرابع من أغسطس الماضي نحو مئتي قتيل وأكثر من ستة آلاف جريح والآلاف من المشردين، فضلا عن الأضرار المادية الهائلة.

ويقول محمد شمس الدين، الباحث في الشركة الدولية للمعلومات (خاصة)، إن “أضرار الانفجار امتدت على مسافة 8 كلم، وطالت نحو 62 ألف وحدة سكنية و20 ألف مؤسّسة تجارية”.

وتحت عنوان “المدينة الضائعة” صنع خمسة فنانين شمال العاصمة بيروت مجسّما مصغّرا بـ200 مرة لموقع الانفجار، معتمدين على صور للمكان التقطوها من الأرض والجو لنقل الواقع بأدقّ تفاصيله.

ويبلغ ارتفاع المجسم 80 سنتيمترا، بعرض متر و20 سنتيمترا، وبعمق 80 سنتيمترا.

ويُظهر المجسم الدمار الكبير الذي لحق بصوامع القمح ومكان وقوع الانفجار في العنبر رقم 12، حيث تم تخزين 2750 طنا من مادة نيترات الأمونيوم شديدة الانفجار منذ عام 2014 بعد مصادرتها من سفينة شحن.

واستغرق إنجاز المجسم نحو شهرين، واستُخدمت فيه أتربة مأخوذة من موقع الانفجار، بالإضافة إلى مواد الجبس (الجفصين) والبلاستيك والألوان ومواد تعتيق وغيرها.

وقال مصمّم المجسم وسام زغلول إن “كل شخص لديه طريقة في التعبير، البعض يعبّر بالرسم والبعض الآخر بالكتابة، أما نحن فقرّرنا التعبير بهذه الطريقة”.

وأوضح أن “المجسم هدفه تأريخ الحادثة الأليمة -التي دمّرت جزءا كبيرا من مدينة بيروت- وتخليد ذكرى الضحايا”.

وتابع زغلول “حتى لو أُزيل الركام والحطام من المرفأ لاحقا وهُدّمت صوامع القمح المتضرّرة سيبقى هذا المجسم شاهدا على الانفجار، كي لا ينسى أحد الجريمة التي وقعت وما زالت تداعياتها مستمرة”.


ودمّر الانفجار جزءا كبيرا من صوامع القمح التي تتّسع لنحو 120 ألف طن، وكانت تستخدم للاحتفاظ بمخزون إستراتيجي من القمح.

وفي نوفمبر الماضي أعلنت حكومة تصريف الأعمال أنها عازمة على هدم الصوامع، لأنها تشكل خطرا على السلامة العامة بسبب تصدّعها واحتمال انهيارها.

ويقول عماد أبوأنطون -أحد أعضاء المجموعة المنفذة للمجسم- إن الغاية من المجسم “هي تجسيد المأساة التي أصابت المدينة”.

ويتابع “الهدف أيضا هو بيع هذا العمل الفني في المزاد العلني، على أن يتم التبرّع بالمال لصالح المتضررين من الانفجار ومساعدتهم على ترميم منازلهم”.

وتمنّى أبوأنطون إتمام التحقيقات القضائية والكشف عن حقيقة ملابسات هذا الانفجار.

وفي 10 ديسمبر 2020 وجه المحقّق العدلي في القضية القاضي فادي صوان تهمة “الإهمال والتسبب بوفاة أبرياء” إلى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب وثلاثة وزراء سابقين.

وبعد أيام قليلة طلب اثنان من الوزراء الثلاثة، وهما غازي زعيتر وعلي حسن خليل (نائبان حاليان في البرلمان)، من محكمة التمييز الجزائية نقل القضية إلى قاض آخر، بعد اتهامهما صوان بخرق الدستور بادعائه عليهما.

ومنذ 17 ديسمبر الماضي لم يتم الإعلان عن استكمال التحقيقات فيما تصدر مطالبات رسمية وشعبية من حين إلى آخر -لاسيما من أهالي الضحايا- بإنجاز التحقيقات ومحاسبة المتورّطين.

وزادت تداعيات الانفجار الوضع سوءا في بلد يعاني بالأساس من أزمة اقتصادية -هي الأسوأ منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975 – 1990)- أدّت إلى انهيار مالي وتدهور معيشي يدفع بمحتجين نحو الشارع.

وتُفاقمُ مأساةَ عائلات الضحايا والمتضرّرين حالةُ استقطاب حاد بين القوى السياسية، تحول دون تشكيل حكومة تخلف حكومة تصريف الأعمال التي استقالت بعد ستة أيام من الانفجار.

ودفع انفجار المرفأ العديد من الفنانين اللبنانيين والعرب إلى الاستلهام من الكارثة ليوثّقوا المأساة كل على طريقته ووفق سرديته البصرية الخاصة به، فقدّمت الفنانة اللبنانية سمر مغربل في ديسمبر الماضي بقاعة “صالح بركات” البيروتية معرضا حمل عنوان “فن النصر” وضمّ مجموعة من المنحوتات التي أتت غالبيتها في شكل منحن ومقعّر يحيل المُشاهد إلى الدخان الذي اجتاح بيروت إثر الانفجار الكبير.

كما ابتكرت الفنانة اللبنانية سارة أبومراد منحوتات صنعتها من شظايا الزجاج المكسور الذي تطاير إثر انفجار بيروت، فجسّدت أشكالا بشرية حافظت على خاصية غياب الذراعين مع حضور للأرجل، وكأنها تمشي الهوينا وقوفا كحال لبنان الجريح.

ومن حادثة انفجار المرفأ أيضا قدّم الفنان اللبناني عبدالقادري معرضا مفاهيميا بقاعة “تانيت” البيروتية حمل عنوان “اليوم، أريد أن أكون شجرة” محاولا من خلال رسمه غابتين شاسعتين متداخلتين إعادة الحياة إلى المنطقة المنكوبة وإلى القاعة الفنية المدمرة هي أيضا بفعل الانفجار.

ومن الفنانين العرب قدّم الفنان والمصوّر الفوتوغرافي السوري عمار عبدربه في نوفمبر الماضي معرضا أقامه بغاليري “أيام” في دبي حمل عنوان “إلى بيروت..”، مشكّلا تحية إلى العاصمة اللبنانية وأهلها في محنتهم الممتدة قبل الانفجار وبعده. وأتى المعرض توثيقا للحادث المُربك، وقد تحدّث أيضا برمزيته عن هول الخراب الحاصل في الأنفس البشرية قبل البنى التحتية المتضرّرة من الكارثة.

وتظل لوحة “شظايا بيروت” التي رسمها الفنان الجزائري عبدالحليم كبيش إحدى أبرز اللوحات الفنية العربية التي تناولت الانفجار بشكله العبثي المدمّر، وهو الذي حوّل نفسه إلى جزء من اللوحة/ المأساة، واضعا جسده وفنه داخل الحدث ليكون إحدى ضحاياه؛ إذ تظهر جداريته العملاقة لحظة انفجار مرفأ بيروت بينما يسيل الدم من حافة اللوحة إلى الأسفل، وهو ملقى على الأرض ينزف وبيده ريشته وعلى مقربة منه علم لبنان الجريح. ما يعني أن الانفجار طال مرسمه في الجزائر وطاله هو نفسه ليستحيل الجرح اللبناني جرحا كونيا نازفا على كل أرض عربية نخرها ولا يزال ينخرها الفساد.

23 فبراير 2021

هاشتاغ

التعليقات