المجتمع

هل تنجح السينما المصرية في جذب الجمهور إلى المحرمات الدينية
هل تنجح السينما المصرية في جذب الجمهور إلى المحرمات الدينية

 استقبلت شريحة واسعة من الجمهور المصري والعربي عنوان فيلم "المُلحد" باندهاش كبير، فهو جريء إلى حد بعيد، ولا يتناسب مع الثقافة المحافظة التي ترفض كل ما يشكّك في الدين أو يتعارض معه، بغض النظر عن أسلوب النقاش ومبرراته حتى لو كان بغرض الدفاع عن العقيدة، وهو نفس المنطق الذي يفكّر به كثيرون في دول عربية، ومع أن النقاش السينمائي لقضية الإلحاد ليس جديدا، لم يسلم الفيلم من النقد واتهامات الإساءة لله والإسلام.

إلاّ أن ما يمهّد لإمكانية أن يكون الفيلم عميقا في مناقشة القضية وبعيدا عن الأعمال السينمائية السابقة التي عالجت القضية بصورة هامشية أنه من تأليف الصحافي إبراهيم عيسى، المعروف بميوله المتحرّرة عن كل ما يرتبط بالقيود الدينية والفكرية، ولديه مواقف جريئة تصدّى خلالها للتشدّد باختلاف أشكاله، أيّ أنه على دراية بماهية الإلحاد وأسبابه، فهو واقعي في أفلامه وكتاباته ويميل إلى الحقيقة المجرّدة.

والفيلم من إخراج ماندو العدل، وهو التعاون الثاني بينه وبين الكاتب إبراهيم عيسى بعد فيلم “صاحب المقام”، ويشارك في بطولة “المُلحد” مجموعة كبيرة من النجوم، بينهم الفنان محمود حميدة وصابرين وحسين فهمي وتارا عماد وأحمد حاتم ونجلاء بدر ومصطفى درويش وأحمد السلكاوي.

وقال الناقد الفني محمود عبدالشكور لـ"العرب"، إن قضية فيلم "المُلحد" خطيرة، والميزة أن إبراهيم عيسى من اهتماماته أنه دائما ما يقدّم زوايا مختلفة في رواياته، وهو أيضا مهتم بنقد الثقافة الدينية وهذه قيمة فنية في أفلامه، ما يمهّد لتكون معالجته للإلحاد عميقة في تناولها للجانب الخاص بالشخصية والعلاقة مع الآخر بمفهومها الشامل.

وأضاف "شخصية المُلحد لم تأخذ حقها على شاشات السينما المصرية والعربية لأسباب عديدة، وعندما تكون هناك معالجة عميقة فهذه مغامرة فنية من الدرجة الأولى، ونجاحها مرتبط بأن يكون الفنان هو المحور، ولن يحدث ذلك قبل أن نعترف بأن الفن بالأساس هو تعبير عن همّ شخصي وليس انعكاسا لوجهات نظر".

مسافة بين فيلمين

سبق أن عُرض فيلم مصري حمل العنوان ذاته للفيلم الجديد “المُلحد” عام 2014، وفشل في لفت انتباه الجمهور وتم رفعه من دور العرض، رغم موافقة مؤسسة الأزهر عليه، وعدم تدخل الجهات الرقابية في حذف أيّ من مشاهده، حيث كان لم يحمل إساءة لأي دين، أو يروّج للإلحاد.

محمود عبدالشكور: الفن بالأساس هو تعبير عن همّ شخصي وليس انعكاسا لوجهات نظر
كانت أبرز مشكلة واجهت هذا الفيلم أنه عُرض في ذروة الاستقطاب السياسي والديني، عقب سقوط حكم الإخوان، وتصاعد موجة الإرهاب في مختلف ربوع مصر، أيّ أن الظروف السياسية لم تكن تصلح لمناقشة قضية جدلية مثل الإلحاد، في ظل عدم اقتناع الجمهور بإمكانية دخول السينما لمشاهدة فيلم يتطرّق لإنكار الدين والإله والكفر بهما.

ولم يحقّق الفيلم الذي كتب عليه للكبار فقط لجذب الجمهور أرباحا تدفعه للاستمرارية في دور السينما، إذ لم تتخطّ إيراداته ما يناهز المئة والثلاثين ألف جنيه، لأسباب ارتبطت بالظروف المحيطة بتوقيت عرضه، إضافة إلى خوف دور السينما من تسويقه، لدرجة أن أربع عشرة قاعة عرض فقط هي التي سمحت بعرضه للجمهور من بين مئة دار، والسبب الأهم أن الفيلم كان فقيرا فنيا، وضعيفا دراميا، وتناول قضية الإلحاد من منظور سطحي.

شارك في هذا الفيلم صبري عبدالمنعم وياسمين جمال وحسن عيد ومحمد هشام وليلى عز العرب، وهو من تأليف وسيناريو وحوار وإخراج نادر سيف الدين.

ويأمل الكثير من النقاد أن يتطرّق فيلم “المُلحد” الجاري تصويره حاليا إلى القضية من منظور واقعي، ورصدها وفق دراسات علمية وميدانية تناقش حياة الشخص المُلحد بحبكة فنية متماسكة وثرية وعقلانية تشوّق الجمهور إليه دون تهويل أو تزييف.

وما قد يعطي مؤشرا إيجابيا على إمكانية اختراق الفيلم الجديد للأفكار والأسرار في عالم المُلحدين لكشفها بشكل عميق أن مؤلّفه سبق وانتقد تقديم شخصية المُلحد بصورة غير واقعية، والتعامل معه كإنسان لديه خلل عقلي، دون التركيز على أفكاره.

وصارت المؤسّسة الدينية تميل بشكل أكبر إلى حتمية وجود اختراق فني يستهدف التصدّي لظاهرة الإلحاد والتحذير منها والوصول إلى أسبابها بطريقة علمية نقدية، وثمة دوائر حكومية ترغب في أن يقوم الفن بدور أكبر في تجديد الخطاب الفكري والديني والطعن في كل ما يرتبط بالتشدّد، والتركيز على تبعاته السلبية.

صورة مكرّرة

أزمة الكثير من أفلام السينما في مصر التي تطرّقت لظاهرة المُلحد أنها قدّمته بصورة مشوّهة في محاولة لتنفير الجمهور منه، وتعاملت معه كمجنون ومنحل أخلاقيا وعاشق للجنس والملذات، ولم تتعرّض للأسباب التي دفعته لاختيار طريق الإلحاد، هل التشدّد الديني أم المجتمعي، أم الهيمنة الأسرية، أم الأجواء العامة في البلد الذي يعيش فيه.

وقال عبدالشكور لـ”العرب” إن أيّ فيلم يتطرّق إلى القضايا الدينية الشائكة مثل الإلحاد يتطلّب أن يكون عميقا في التناول والتحليل والقراءة الجيدة للمشهد العام، وكيفية توصيل موضوع جدلي محفوف بالمخاطر بشكل يدفع الناس لتقبّله من خلال معالجة فنية ثريّة وشيّقة تجنبا لسقوط الفيلم في دوامة تقديم دراسة أو خطبة دينية.

الكثير من الأفلام المصرية التي تطرّقت لظاهرة المُلحد، قدّمته بصورة مشوّهة في محاولة لتنفير الجمهور منه

ويرى البعض من النقاد أن العبرة من اقتحام السينما لقضايا شائكة في أيّ مجتمع عربي مرتبطة بالدين تحديدا، ليست في كم الأفلام التي يتمّ إنتاجها حول هذه الموضوعات بقدر ما تكمن الأهمية في المضمون والتعمّق في التفاصيل وطريقة العرض والنقاش بشكل نقدي بناء بعيدا عن السطحية وغياب الجرأة في التطرّق إلى الأسباب والحلول خشية الصدام مع محظورات الجمهور حول الصدام مع الدين.

وهناك الكثير من الأعمال الفنية التي تطرقّت إلى مسألة الإلحاد، لكن أغلبها لم يناقش القضية بشكل دقيق، وما زال الجمهور لا يفرّق بين المُلحد والشيوعي والعلماني، كما أن النسبة الأكبر منها، ربما جميعها، لم تشر بشكل مباشر إلى أن تيارات الإسلام السياسي والخطاب الديني المتطرف، حتى من جانب بعض المؤسسات الدينية الرسمية، كانت سببا في ميل البعض من الشباب إلى المضي في طريق الإلحاد.

بدت نهايات أغلب الأفلام التي تناولت الإلحاد قريبة من بعضها، بأن يتوب الشخص المُلحد إلى الله ويعود إلى رشده ويكفّ عن إنكار وجود الإله والدين، ويبدو أن الأمر في ظاهره محاولة لاسترضاء الأكثرية المحافظة التي لن تقبل بغير ذلك، حتى لا يُتّهم العمل بأنه يروّج إلى فكرة الإلحاد ويدافع عن الملحدين ويتبنى أفكارهم ويتعاطف معهم، وهي معالجة فنية غير احترافية للقضية.

ميراث فني كبير

كانت أولى الأفلام التي ناقشت الإلحاد في السينما المصرية، “الشحات”، وتم إنتاجه عام 1973 بطولة الفنان محمود مرسي، ويتحدّث عن محامي ينتمي إلى الطبقة الغنية ويساوره قلق وجودي حول أهمية حياة البشر وسرّ الخليقة والكون والإيمان بالله، فيعشق الملذات الجسدية باحثا عن متعته الذاتية في الحياة، ثم يصل به الأمر لمقايضة عشيقته مع صاحب الملهى الليلي الذي كانت تعمل فيه، مقابل أن يجيبه على سؤال يشغل عقله: هل يؤمن بالله أم لا؟ ومع عدم حصوله على إجابة يقرّر العزلة والتصوف والطمأنينة الإلهية ويعود إلى طبيعته.

مؤلف الفيلم إبراهيم عيسى عرف بمواقفه الجريئة التي تصدّى من خلالها للتشدّد بمختلف أشكاله، وهي قيمة فنية ثابتة في أعماله
وفي العام التالي ناقش فيلم “الأخوة الأعداء” بطولة نور الشريف قضية الإلحاد، عندما ظهر بشخصية المثقف المُلحد الذي يفتخر بكونه ناكرا لأي وجود إلهي ليدخل في صراع مع عائلته ثم يصل إلى يقين بأن الله موجود بالفعل.

وبعد عامين، أي في عام 1976، عاد الفنان نور الشريف مرة ثانية ليُناقش ذات القضية في فيلم “لقاء هناك”، ويظهر بشخصية شاب يتمرّد ضدّ وصاية والده الدينية، في الصلاة والصوم والالتزام، ليصل إلى رفض الوصاية الإلهية في المطلق، وفي عام 1993 قدّم أيضا شخصية المُلحد في فيلم “الرقص مع الشيطان".

وما يعزّز سطحية المعالجات السينمائية للإلحاد التي تناثرت وجاءت بصورة متفرّقة بعضها مباشر والبعض غير مباشر، أنها لم تربطه بالتطرّف الديني، بعكس ما يؤمن به إبراهيم عيسى، إذ جاءت كل تصريحاته الصحافية وعدد من أبطال العمل في سياق أن الناس ما زالت تبحث في أسباب عدم الإيمان، ولا تفرّق بين الإلحاد الناتج عن التفكير الزائد في الدين أو بسبب التشدّد والترهيب.

ولفت عبدالشكور إلى أن التجارب السابقة التي تناولت المُلحد كانت أنضجها شخصية في فيلم "الأخوة الأعداء" التي ارتبطت بالرواية نفسها، لكن المعالجات الأخرى جاءت نظرية ولم يتقبّلها المجتمع.

والخطورة في التناول الفني لقضية مثل الإلحاد، أن يتم معالجتها بشكل مباشر وكأن إنتاج فيلم عن الإلحاد واجب ديني، وهذا ليس دور الفنان، بل الأهم أن يعبّر بشكل صادق وحقيقي عن الشخصية التي يتناولها دون استسلام لرقابة ذاتية أو مجتمعية.

صحيح أن منسوب التشدّد الديني لم يكن في الماضي بذات الصورة التي صار عليها مؤخرا، لكن أي معالجة فنية لقضية الإلحاد من دون ربط شخصية المُلحد بما يدور حوله من تطرّف وترويج للعنف والوحشية وربط حلول المجتمع بأسلمة الدول لن تكون واقعية، لأن شريحة ليست بالقليلة من الشباب سلكت طريق الإلحاد بسبب الخداع والنفاق والتخفي في عباءة الإسلام واللحية.

وبغض النظر عن مضمون الفيلم المرتقب عرضه عن الإلحاد، فالأهم من مناقشة القضية من منظور معاصر أن تقوم السينما بالدور الذي فشل فيه الخطاب الديني، إذ لا يمكن معالجة هذا الموضوع الشائك سوى بطريقة فنية تمنح للمُلحد مساحة كافية للتعبير عن أفكاره بحرية تامة، وتكرّس قيم التسامح والنقاش والحوار معه كمدخل للحل والتفكير على هيئة مناظرة سينمائية بين قناعاته التي يراها صحيحة والحقائق الثابتة التي يفترض أن تكون هي الصواب للوصول إلى أرض صلبة تقف عليها كل الأطراف، ويُترك للجميع حرية الفصل في القضية.

07 أكتوبر 2021

هاشتاغ

التعليقات