عربي ودولي

ميل الأسرة لنقل تجارب الأقارب والأصدقاء في تربية الأبناء يؤدي إلى تمردهم
ميل الأسرة لنقل تجارب الأقارب والأصدقاء في تربية الأبناء يؤدي إلى تمردهم
دفع جمال مصطفى، وهو رب أسرة مصري، فاتورة باهظة لإلحاق ابنه بالتعليم الأزهري بحجة أنه يقود الأبناء إلى التربية الصحيحة ويلزم الصغار بالقيم والأخلاق والعادات والتقاليد القويمة، بحيث يكرر تجربة أقاربه الذين ألحقوا أولادهم بمعاهد دينية ونصحوه بأن يبتعد عن التعليم العام لتحرره في مفاهيم التربية.

اعتقد الأب أن تقليده لطريقة التربية والتعليم التي سار عليها أقاربه والذين يربون أولادهم على الالتزام منذ الصغر والخضوع لتعاليم دينية بحتة في السلوكيات والتصرفات سوف يجعل من ابنه شخصا سويا، على حد وصفه، لكنه اصطدم بعد فترة بأن الابن أكثر تحررا ولديه طموحات شخصية متحررة وبعيدة عن الالتزام بالتقاليد والأعراف ويمتلك نزعة استقلالية ترفض كل القيود عليه.

تعلم جمال عن عائلته أن توريث التربية التي خضع لها الأب في الصغر لأولاده عندما يكون رب أسرة يجلب له الراحة وبر الأبناء، باعتبار أن القيم القديمة في المجتمع هي الأكثر بقاء ونفعا، ولم يدرك أن الأجيال تتغير بتطور الحياة ولكل عصر ظروفه ومتطلباته وحاجاته على مستوى تعامل الأهل مع الأبناء.

وقال الأب لـ"العرب" إن التمرد الذي بدا على ابنه أثبت له أن التقليد الأعمى في التربية بناء على أساليب موروثة عند الأبوين سلوك خاطئ، وكل زمان له متطلباته، لأن الأطفال ليسوا عجينة واحدة، وشخصياتهم وسماتهم مختلفة وبالطبع أحلامهم، لكنه كان يجهل الحد الأدنى من أدوات التربية الصحيحة فاضطر إلى تقليد تجارب رآها ناجحة من وجهة نظره. وتقع الكثير من الأسر العربية في فخ النقل الحرفي لتجارب الأقارب والأصدقاء في تربية أولادها، دون إدراك لاختلاف السلوكيات بين الصغار والبيئة التي يعيشون فيها، إذ يبحث الآباء عن الوصول بأولادهم إلى قمة التربية والنضج والالتزام القيمي أسوة بأولاد غيرهم، ويتمسكون باتباع نفس طريقة التنشئة بعيدا عن خصوصية كل أسرة وطبيعة أفرادها وتباين ميولهم.

صحيح أن التقليد دائما ما يحمل نوايا حسنة من الآباء ناحية الأبناء، إلا أن فكرة التقليد الأعمى في التنشئة تعني انتهاك خصوصية الأسرة والأولاد، فليس بالضرورة أن تكون أساليب التربية التي تتبعها عائلة بعينها صحيحة وتؤدي إلى أبناء صالحين، بل يمكن أن تكون لدى الأبناء سمات سهلت على أسرهم مهمة تربيتهم دون عناء.

غرس القيم والمبادئ في الأبناء يتطلب أن تكون الأسرة قدوة لا مجرد مشرفة على تنفيذ طريقة بعينها في التنشئة

ويترتب على التقليد الأعمى في التربية أن تضع الأسرة معايير وقوانين تفرضها على أفرادها، مستوردة من عائلات تربت على أعراف وتقاليد ومفاهيم مختلفة عن غيرها، على مستوى التعليم وأسلوب التنشئة والثقافة والفكر والبيئة الاجتماعية، وعندما يتم نقل التجربة بحذافيرها دون مراعاة للفروق تحدث الفجوة.

ويرى متخصصون في شؤون العلاقات الأسرية أن إصرار بعض الآباء على التقليد في التربية، باعتبار أنها نجحت عند الآخرين، يوجد صراعا بين الأجيال، لأن الأبناء بطبيعتهم يملكون نزعات استقلالية، خاصة الأجيال الجديدة، وأقصى ما يمكن إلزامهم به أن يسيروا على نهج أسرهم، ولا يلتزمون بما تفعل عائلات أخرى.

ويعتقد هؤلاء أن تحقيق أحلام الآباء في تنشئة أبنائهم على القيم والأخلاق وأن يكونوا صالحين وأصحاب خلق رفيع لن يتحقق بنمط تربية مستوردة، ومن الواجب أن يكون الآباء والأمهات أنفسهم قدوة لأولادهم لا أن يجبروهم على مسار يسلكه آخرون.

وقالت هالة حماد المتخصصة في العلاقات العائلية وتقويم السلوك بالقاهرة إن استسهال بعض الأسر في التربية بنقل تجارب الآخرين لغرس القيم الأخلاقية في أولادها قد يقود إلى تمرد الأبناء لأن القيم تُكتسب من العائلة التي نشأ فيها الابن وتحتاج إلى وقت طويل للتعود على الالتزام بها، ولن يتحقق ذلك من غير وجود قدوة ومثل أعلى من داخل الأسرة.

وأضافت لـ"العرب" أن إجبار الأبناء على أن يكونوا في نفس مستوى أولاد عائلات أخرى، سلوكيا وتعليميا وقيميا وأخلاقيا، دون وضع الأسرة الأسس التي من خلالها يصل الأبناء إلى هذا المستوى من التربية السوية يقود إلى تنشئة مختلة، فالابن دائما ما ينظر إلى والده ويفعل مثله، ومن غير المنطقي أن يُجبر على شيء لا يلتزم به الأب. وما يلفت الانتباه أن بعض الأسر صارت تميل إلى معايرة أولادها ومقارنتهم بأبناء أسر أخرى على مستوى التربية والسلوك والسمات الشخصية بلا إدراك لكونها السبب الرئيسي في ذلك عندما استسهلت زرع قيم قديمة تربت عليها ولم تراع خصوصية كل ابن داخل الأسرة وفرضت على الجميع نمطا واحدا للتنشئة لا يحيد عنه أيّ منهم.


وتتعامل الكثير من العائلات مع التربية الإيجابية كأنها معركة بين الآباء والأبناء، مع أن الآباء إذا كانوا من الأسوياء أخلاقيا وفكريا ومجتمعيا ويتمتعون بسمات شخصية عقلانية لن يجدوا صعوبة في توريث أولادهم نفس الصفات، واللجوء لاستيراد تجارب الآخرين وتطبيقها بلا فلترة أو اختيار الأنسب يعني أنهم فشلوا في مهمة تقويم أنفسهم.

وإذا كان التقليد في التربية يصلح بعض الأحيان عندما تتقارب الظروف على كل المستويات، فإن اتباع الطريقة المستوردة في التنشئة مع جميع الأبناء، ذكورا أو إناثا، يحمل ظلما للطرفين لأن الآباء سيشعرون بالإحباط عندما يفشلون في إلزام أبنائهم بطريقة التربية التي يريدونها، والأبناء أنفسهم يصبحون أكثر ميلا للتمرد والعصيان.

وأكدت حماد لـ”العرب” أن تحقيق الآباء للأمنيات الشخصية في الأبناء دون النظر إلى طبيعة كل منهم وما يحبه ويتمناه وما يكرهه، يحمل قدرا من الأنانية التي قد تنتقل بالتبعية إلى الصغار، وتكون جزءا من سماتهم، ما ينذر بصدامات في المستقبل بين الطرفين عندما يتمسك الآباء بوجهات نظرهم بينما الأبناء لهم طموحات مغايرة.

وتزداد الأزمة تعقيدا عندما يتمسك أحد الأبوين بتقليد تجربة بعينها في تربية الأبناء، مع أن شريكه يرفضها، وتكون هناك ما يشبه الحرب بين الطرفين، ويسعى كلاهما لكسبها من دون إدراك لكون التنشئة السوية تقوم على التشارك في الهدف والسعي من جانب الأبوين لتحقيقه بصورة ناعمة، وشريطة الاقتناع بأن الآباء الصالحين ينتجون أبناء صالحين، والعكس صحيح.

والأهم، أن يقتنع الأب والأم بأن قلة الخبرة العلمية والحياتية في عملية التربية بشكل سليم لا يجب أن يكون علاجها باستيراد تجارب لأن غرس القيم في الأبناء يتطلب أن تكون الأسرة قدوة لا مجرد مشرفة على تنفيذ طريقة بعينها في التنشئة تؤسس لأجيال غير متزنة وربما تجد نفسها مدفوعة للتمرد على أسرتها للحفاظ على استقلاليتها.

14 أكتوبر 2021

هاشتاغ

التعليقات