أثار عرض مسلسل “الحشاشين” ضجة كبيرة في مصر بسبب التباين حول قدرته على توصيل الهدف السياسي من وراء إعداده وبثه في موسم رمضان، وهو كشف مخاطر استغلال الدين من قبل الجماعات الإسلامية وتوظيفه لتحقيق أغراضها المشبوهة في الدول التي نشطوا فيها مؤخرا، ومنها مصر التي خاضت حربا ضروسا ضد التنظيمات المتطرفة خلال الفترة الماضية ونجحت في تقويض نفوذها وحصارها.
وأرادت الشركة المتحدة للإعلام المنتجة للعمل تقديم رؤية فكرية متماسكة من خلال عمل فني يصل إلى شريحة كبيرة من الناس، وتعمدت استخدام اللهجة المصرية العامية لهذا الغرض لضمان انتشاره ومتابعته، وفضح الديناميكيات الخفية المستخدمة في خطاب المتشددين واستغلال الدين والتسلل إلى شرائح مختلفة في المجتمع من خلال شخصية حسن الصبّاح المحورية والمثيرة للجدل، وجسّدها الفنان المصري كريم عبدالعزيز.
لم يكن كريم محل اتفاق بين من تابعوا العمل حتى منتصف حلقاته الثلاثين، فقد كان من المفترض اختيار فنان تعبر ملامحه عن قوة وصرامة وشراسة ودموية أو يستطيع تقمصها، حتى تتسق مع الخصال التي يحملها حسن الصبّاح وفقا لبعض المرويات، بينما يقول نقاد إن كريم ظهر كشخص مناسب لهذا الدور بوجهه السمح وكاريزمته الليّنة وأدائه البسيط الذي يستطيع به الوصول إلى القلوب، لأن طبيعة الدور تتطلب شخصا مخادعا ومراوغا، يبدو في الظاهر طيبا، وهو في الواقع خشن وقاس.
◙ شخصية حسن الصبّاح تقسم المصريين ولم تؤد الإسقاطات على الجماعات الدينية إلى نتائج تريدها السلطة
كانت هذه واحدة من نقاط الخلاف الرئيسية، ترتبت عليها قضايا فرعية حول نسبة النجاح في توصيل الرسالة المركزية لعمل قيل إن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي طالب بإعداده منذ حوالي عامين لفضح زيف الجماعات الدينية، والمرجعيات التاريخية التي تستند عليها، والآليات التي تمكنها من التغلغل إلى قاع المجتمع.
كان من المنتظر عرض “الحشاشين” في موسم رمضان الماضي، لكن تجهيزه استغرق وقتا، وحدثت مراجعات سياسية للقصة والسيناريو والحوار من جهات عليا في الدولة لضمان تحقيق الهدف، ومنع إثارة لغط حول قصة رجل جرى تناولها من خلال دراسات عدة، ولم يحدث اتفاق حول غالبية تفاصيلها.
ولم تتمكن الشركة المنتجة من الانتهاء منه في الموسم الماضي، حيث أرادت تقديم عمل يليق بالطالب والمطلوب، ويحدث هزة فكرية في المجتمع، ويخلخل الثوابت التي تستند عليها التنظيمات المتشددة، وفي مقدمتها جماعة الإخوان.
ولذلك لم يحمل العمل إسقاطا سياسيا فقط عليها تحديدا لأنها الجماعة التي خدعت المصريين حتى وصلت إلى السلطة، وأرهبتهم عندما سحب البساط من تحت أقدامها، بل تكاد تكون القضايا التي ينطوي عليها متشابهة معها وربما نسخة أخرى ظهرت منذ قرون بعيدة، وهو ما منح الفرصة للتأصيل لجذور التطرف.
أسّس حسن الصبّاح فرقة من أكثر المخلصين للعقيدة الإسماعيلية، سماها “الفدائيين” وعرفت أيضا بـ”الحشاشين” في الأدبيات الشائعة، وهم رجال لا يخافون الموت في سبيل تحقيق أهدافهم، ويؤمنون بالسّمع والطاعة، وألقوا الرعب في قلوب الحكام المعادين لهم، واغتالوا العديد من الشخصيات، وتدور أحداث المسلسل في القرن الحادي عشر، بشمال بلاد فارس، وهو من تأليف عبدالرحيم كمال، وإخراج بيتر ميمي.
تركت الحلقات التسع عشرة التي عرضت من “الحشاشين” انطباعات متفاوتة لدى المشاهدين، إذ اعتبرها البعض معبرة عن الطريقة الناعمة التي تجند بها الجماعات الدينية أتباعها وعناصرها والحجج التي تعتمد عليها لتعميم أفكارها المتطرفة، لكن آخرين رأوا أنها حملت أهدافا عكسية، فالفنان كريم عبدالعزيز أو حسن الصبّاح بدا في بعض المشاهد حاكما نزيها عادلا حاسما، ويقيم الحد على أقرب الناس إليه.
واتخذ هؤلاء من مشهد إعدام الصبّاح ابنه الذي تجاوز في حق أحد العلماء وقتله، ذريعة لتأكيد أن مسلسل “الحشاشين” ضل طريقه السياسي، وأنه حمل إسقاطات سلبية تختلف عن الهدف الذي جرى اعداده من أجله، كأنه أراد نشر صفة العدالة في منهج الصبّاح وليس ظلمه وألاعيبه وباطنيته، فلا يوجد أقسى من الحكم بإعدام ابن، وحاول المقربون منه ثنيه لكنه أبى وصمم على تنفيذ الحكم في مشهد فني حمل الكثير من المشاعر المتناقضة، فقد رفض إحقاقا للحق والعدالة والمساواة وتطبيقا للشريعة، وهو مشهد أثار انتقادات واسعة ضد المؤلف وجلب عليه تشكيكا في نواياه الحقيقية.
لكن المشهد نفسه أيضا قد يكون معبرا عن خطورة حسن الصبّاح وجماعته، والتي يمكنها ارتكاب جرائم بشعة في سبيل تسويق فكرتها وإقناع الناس بها، فموقف إعدام الابن يؤكد أن الوصول إلى السلطة أولى من العاطفة، ويستحق الحفاظ عليها تقديم تضحيات كبيرة، فإذا كان الصبّاح ضحى بفلذة كبده، فلا بد عندما يُقدم على تصرف مماثل أو أكثر بشاعة مع آخرين أن يتم تصديقه والرضوخ لأوامره، لأجل تطويع كل شيء من حوله لإرادته الباطنية.
وبقدر ما أثار مشهد الإعدام حرجا للشركة المنتجة والمؤلف والمخرج، والجهات الرسمية التي أشرفت على العمل ورسمت له الخطوط العريضة وحدّدت أهدافه مسبقا، بقدر ما كان دليلا على خطورة الحشاشين القديمة والجماعات الحديثة التي تسير على دربها، فالخداع سمة رئيسية فيها، والتضحية ستار لارتكاب ما هو أبشع في حق الشعب، فالصبّاح أعدم ابنه بدم بارد ومن السهولة تبرير إعدام أيّ شخص آخر يخالفه من دون أن يحتاج إلى مبررات، وقد يكون هذا المشهد هو “ماستر سين” المسلسل.
أدى البطء في الكشف عن هوية حسن الصبّاح إلى تصاعد الجدل حول شخصيته وفتح المجال للانقسام حول ما تركه من تأثير لدى قطاع من الجمهور، وهل كان عادلا أم ظالما، واحتاج المؤلف عبدالرحيم كمال ما يقرب من عرض نصف الحلقات كي يبدأ المشاهدون اكتشاف نوايا الصبّاح تدريجيا.
وهي مدة زمنية كبيرة، ترسخت خلالها صورة إيجابية عنه عكس الهدف الرئيسي للمسلسل، وعندما بدأ العد التنازلي لتقديم الوجه الحقيقي للرجل وأهدافه سيحتاج المؤلف إلى عمل مضن أو قفز على الأحداث، إذ عليه أن يمحو ما تركه من استنتاجات خاطئة وصورة ذهنية وردية، ثم رسم أخرى قاتمة تحمل الرسالة التي يريدها العمل.
وهذه واحدة من المشاكل في مسلسل “الحشاشين” الذي أعاد قدرا من الهيبة للدراما المصرية، لأنه إنتاج ضخم وقدم بطريقة فنية جذابة، وكانت مشاهد التصوير الخارجي مقنعة في معظمها والموسيقى التصويرية معبرة، وظهر السخاء في الإنفاق على عمل تطلب خوض معارك وجلب أعداد كبيرة من الفنانين، وهذه المشكلة من المؤكد ستتم معالجتها في الحلقات المتبقية، وكان يمكن تلافيها في حلقات سابقة كي يتمكن العمل من ترسيخ رسالته التي أدت إلى إنتاجه وعرضه أصلا.
ضم المسلسل مجموعة قديرة من الفنانين والفنانات، وبدا كل منهم فاهما لطبيعة دوره وأهمية الرسالة السياسية التي يحملها العمل، وفي مقدمتهم السورية سوزان نجم الدين، واللبناني نيقولا معوض، فضلا عن عدد من النجوم المصريين، أبرزهم فتحي عبدالوهاب وأحمد عيد وميرنا نورالدين.