المجتمع

"بابا جه".. كوميديا تنجح في تحليل أهمية دور الأب في الأسرة
لو ركز الصحافي أو حتى المشاهد العادي مع كل المسلسلات المعروضة في السباق الرمضاني الحالي، لما كانت الأربع والعشرون ساعة في يومه كافية لمتابعة كل الأعمال المعروضة من مختلف الدول. وإن تابع موجة “الترند” لوجد نفسه مشتتا لا يستطيع اختيار ما يمكنه متابعته، فأغلبها موجات “مزيفة” تنظمها لجان إلكترونية وصفحات مأجورة، في حين أن الأعمال حقيقة تحظى بسخط كبير وتطالها تعليقات سلبية على كل منصات التواصل الاجتماعي.

أحد الأعمال التي كسرت هذا العام القاعدة، وجاءت بالفعل محققة للترند الإيجابي، وجذابة للجمهور، رغم بساطتها، هي مسلسل "بابا جه"، ذو الـ15 حلقة، والذي يخرجه خالد مرعي، ويمثل فيه كل من أكرم حسني، نسرين أمين، الطفلة لافينيا نادر، وسماء إبراهيم، ومحمود البزاوي، وفريال يوسف، ومحمد أوتاكا، وآخرون. وهو من تأليف وائل حمدي ومحمود إسماعيل، عن نص روائي للكاتبة الكورية هونغ بو يونغ.

يحكي المسلسل الذي يمكن تصنيفه ضمن الكوميديا الاجتماعية، قصة هشام (أكرم حسني)، وهو نموذج لأب عاطل عن العمل جراء أزمة كوفيد - 19، يكتفي بالجلوس في المنزل، ولا يسعى للبحث عن عمل جديد، ويمارس سلوكيات سلبية، تجعله يدمن الجلوس في المنزل واللعب واللامبالاة بطلبات العائلة ولا باحتياجات زوجته وابنته، إلى حين يصدم برأي ابنته فيه، وتحمله الصدفة نحو تأسيس مشروع يطلق عليه “بابا جه”، مختص في تأجير الآباء لمن لا آباء لهم.

وتظهر خصوصية العمل، منذ الـ”تتر” الخاص به، والذي كتب كلماته وقدمه بطل العمل، أكرم حسني، مع أحمد وحيد (كينج) ولافينيا نادر ومن كلمات أكرم حسني ولحن كريم عاشور، توزيع أحمد وحيد (كينج)، واختصر بطريقة كوميدية وبكلمات بسيطة فحوى المسلسل ورسالته.

ما يحسب لهذا العمل أنه بدأ بنسق سريع، حيث لم يتعمد المخرج التمطيط والإطالة في الحلقات إلى حين حدوث الذروة/العقدة الدرامية التي تتغير بعدها الأحداث وتتكشف أعماق الشخصيات وتركيبتها النفسية وإنما منذ الحلقات الأولى، حمل المشاهد نحو حدث مفصلي، تمثل في تعبير الطفلة الصغيرة أمام حفل مدرسي يجمع كل العائلات، يهدف إلى تعليم الطلاب ثقافة الاستغناء، أن الشيء الوحيد في حياتها الذي لا ترى له أهمية ويمكن الاستغناء عنه، هو والدها، فيسارع طفل يتيم لطلب “تبنيه” أبا له، ثم ينساق بطلب من عائلة الطفل للعمل كأب بالإيجار.

هذا الأب الأجير، أكرم حسني، أظهر في أول بطولة مطلقة له، أنه ممثل كوميدي بامتياز، يمكنه تقديم السهل الممتنع مع الحفاظ على الرسالة وأهميتها في خلق قيمة للعمل الفني، فهذا الممثل لم تتح له فرص كبيرة منذ دخوله عالم الدراما في العام 2015 ليكشف عن مواهبه الفنية، وظل الكثيرون ينظرون إليه أنه يستثمر نجاحه كإعلامي للمشاركة في أعمال درامية لم تحقق له نجاحا ولم تصنع له بصمة مميزة، عدا عن دوره "أبوحفيظة" الذي اشتهر به في الإعلام والدراما على حد السواء.

وفي هذا المسلسل لم يقدم حسني براعة كبيرة في الأداء الحركي، وإنما قدم  وجبة كوميدية خفيفة، أقرب إلى كوميديا الموقف، ساعده في تحقيقها الممثلون المشاركون في العمل، وما ساعده أيضا في تحقيق نجاح كبير هو اهتمامه بصورة الأب ودوره في العائلة، وتحديدا تلك الصورة السلبية التي باتت منتشرة بكثرة في المجتمعات العربية. وقد قدمها دون عنف لغوي ولا بصري، فجاءت صورة مقنعة للجمهور، اختتمها الممثل في آخر حلقة من العمل بكلمات تشدد على أهمية أن يبذل الأب وقته وأفكاره وعواطفه من أجل أطفاله وعائلته.

وهو يذكرنا بأن الأب هو أول بطل في حياة ابنته، وهو الرجل الذي يجب أن يمتلك الكثير من الصفات الجيدة والسلوكيات الحميدة التي تجعل حياة أسرته متوازنة وحالة ابنته النفسية سوية، تحميها من الاندفاع تجاه أيّ رجل بحثا عن تعويض الأب المفقود. ويظل البطل طوال حلقات المسلسل غائبا عن منزله، حاضرا في منازل أخرى، فبعد أن أنشأ تطبيق “بابا جه” تكثر عليه الطلبات من أجل لعب دور الأب في حياة الأطفال، وهو ما يشير ضمنيا إلى أن الكثير من الآباء تخلّوا عن أدوارهم، وقوامتهم في المجتمعين المصري والعربي.

ومن تعامله مع الأطفال، يتعلم أكرم حسني الكثير، ويعلمنا معه، عن أفكار الأبناء، من عمر الطفولة وحتى المراهقة، وعن اختلاف الأجيال وما يصاحبه من اختلاف في الأفكار والسلوكيات والقناعات والعلاقات وحتى الأخطاء، وهو في كل مرة يحاول أن يلعب دور الأب المنقذ لطفل وحيد. كما أنه يسلط الضوء، عبر لغة رمزية أحيانا ومباشرة أحيانا أخرى، على مختلف المهن والوظائف وتأثيرها في حياة الآباء وفي توزيعهم لأوقاتهم وإدارتهم لمهامهم. ولكثرة الطلب على الأب يضطر لتوظيف آباء آخرين معه ثم يعرض عليه مبلغ كبير للاستثمار في التطبيق على مستوى أوسع.

◙ ما يحسب لمخرج هذا العمل أنه لم يتعمّد التمطيط والإطالة في الحلقات إلى حين حدوث الذروة/العقدة الدرامية التي تتغير بعدها الأحداث وتتكشف أعماق الشخصيات وتركيبتها النفسية

يستمر العمل بسيناريو محكم، وبوتيرة متوازنة، وبجرعات كوميدية متذبذبة إلى حين يحدث التحول الكبير، حين تصل البطل هشام رسالة من ابنته على تطبيق “بابا جه” ترغب فيها في تأجيره لأنه يؤجّر وقته، وهي ترغب في أن يمضي معها بعضا من الوقت، إثر غيابه عن حفل عيد ميلادها. ويمثل هذا الحدث نقطة التحول الأكبر في المسلسل، والتي تقلبه من كوميديا اجتماعية إلى دراما اجتماعية، حيث يتخذ البطل صورة مغايرة للشخصية، صورة صادمة، تدخل في حوار عميق مع الطفلة، لتفكك للمشاهدين أهمية حضور الأب نفسيا وعاطفيا في حياة أبنائه.

هذه الصورة للأب، نجح مؤلفا النص في التعبير عنها بحوارات واقعية، وبلغة بسيطة وسلسة، تظهر تمكنهما من “تمصير” العمل، الذي هو في الأساس مأخوذ عن رواية “أب للإيجار” للكاتبة الكورية هونغ بو يونغ، والتي تتناول علاقة الأب بأبنائه ودوره في حياتهم، وتحكي قصة واقعية للكاتبة عاشتها بنفسها عندما فقد والدها عمله خلال فترة التحول الصناعي في كوريا في السبعينات من القرن العشرين، واضطرت والدتها إلى العمل من أجل تلبية احتياجات الأسرة.

وإثر نجاح المسلسل، زارت الكاتبة مصر، وأشارت ضمن تصريحاتها إلى سر تناولها لهذا الموضوع حيث قالت إن خروج والدتها للعمل كان إيذانا بتحول كبير داخل الأسرة الكورية التقليدية، لتبدأ المرأة الكورية في الاضطلاع بدور أكبر في قيادة وتحمل أعباء الأسرة بعد أن كانت هذه المسؤولية منوطة بالرجل فقط.

الكاتبة الكورية يبدو أنها تعاني من رجال غير مسؤولين في حياتها، سواء كان ذلك الرجل أبا أو زوجا، وهو ما انعكس على مواضيع كتابتها الروائية، حيث أنها ألّفت إلى جانب “أب للإيجار” رواية بعنوان “تزوجت شبحا”. وهي ترى أن التغيرات الاجتماعية التي دفعت المرأة إلى النزول للعمل، منحتها مسؤوليات “ذكورية” بالأساس، وجعلتها تلعب دور الأب والأم، في المقابل قلصت من حضور الأب وأدواره تجاه أسرته، مما أحدث خللا في تركيبة المجتمع، وفراغا كبيرا في أنفس الزوجات والأبناء خاصة من الإناث اللواتي نشأت لديهن عقدة من الآباء.

انتهى المسلسل بانتهاء النصف الأول من شهر رمضان، وبالإمكان القول، إن أغلب الآراء حوله كانت إيجابية، وأكرم حسني استطاع تحقيق نجاح مهم، وترك بصمة في الدراما المصرية، عبر رسالة مهمة مفادها أن عودته إلى الدراما كانت ناجحة، حيث كان آخر أعماله مسلسل «مكتوب عليّا» الذي عرض في عام 2022.

29 مارس 2024

هاشتاغ

التعليقات