اخبار

اليمن.. المهاجرون الأفارقة والإجرام الحوثي
اليمن.. المهاجرون الأفارقة والإجرام الحوثي
يقطع مئات الأفارقة كل يوم آلاف الكيلومترات براً وبحراً من القرن الإفريقي إلى سواحل اليمن، في رحلة ملحمية شاقة مستمرة منذ سنوات، لم توقفها حربُ اليمن المستمرة منذ ست سنوات، ولا جائحة فيروس كورونا التي أهلكت مليونَي إنسان حول العالم.



وكأية فئة أخرى من المستضعفين في الأرض، يمكن أن يتعرض أولئك المهاجرون غير الشرعيين إلى شتى أنواع الاستغلال والأذى والمخاطر، في الدول التي يمرون عبرها، أو يستقرون فيها.

تبدأ كثيرٌ من رحلات المآسي تلك من منطقة جيجيا، وهي مدينة في الجانب الصومالي من إثيوبيا. وحسب ما أفاد شهود عيان لـ”كيوبوست”، يبدأ المهاجرون الإثيوبيون من هناك رحلتهم سيراً على الأقدام عبر الصومال وصولاً إلى مدينة بوصاصو الساحلية؛ وهي العاصمة التجارية لمنطقة أرض البنط ذات الحكم الذاتي في شمال شرق الصومال.



تزيد المسافة من مدينة جيجيا إلى بوصاصو على ألف كيلومتر، يقطع المهاجرون معظم هذه المسافة، إن لم يكن كلها، سيراً على الأقدام. في بعض الأحيان، يقوم المهربون المحترفون بنقل المهاجرين خُفية بالسيارات بين نقاط التفتيش المنتشرة طوال الطريق، أو بعد رشوة نقاط التفتيش لتسهيل مرورهم. لا تخلو هذه الطريقة من المخاطر أيضاً؛ ففي إحدى المرات، وفقاً لشهود عيان تحدثوا إلى “كيوبوست”، قام أحد المهربين بتكديس ما لا يقل عن خمسة عشر إثيوبياً في سيارة صغيرة، ثم تعرضت السيارة إلى حادث أودى بحياة ما لا يقل عن ثلاثة عشر منهم في منطقة “الشيخ” المرتفعة بأرض الصومال.

أولئك الذين ينجون من مخاطر الطريق طوال الرحلة من إثيوبيا إلى مدينة بوصاصو الساحلية في الصومال، يبحرون إلى السواحل اليمنية على قوارب مختلفة الأحجام؛ بعضها متهالك ولا يستوعب الأعداد الكبيرة. إحدى الوجهات الشائعة لتلك القوارب هي سواحل محافظة شبوة، جنوب اليمن، كميناء بئر علي الذي يبعد نحو 160 ميلاً بحرياً عن بوصاصو الصومالية؛ لكن بعض قوارب المهربين يمكن أن تُنزل ضحاياها، أو ترمي بهم رمياً، على أي من سواحل جنوب اليمن من عدن إلى حضرموت.

لا تختلف رحلة المهاجرين على الأراضي اليمنية عن تلك التي خبروها في الصومال؛ السير على الأقدام ذاته، ولا يحملون معهم سوى قنينة ماء والثياب التي على أجسادهم. غالباً ما تمنع نقاط التفتيش المواطنين من حمل المهاجرين على سياراتهم، وفي بعض الأحيان، قد يتعاطف معهم بعض المارة فيُركبهم على سيارته حالما يبتعد عن نقطة التفتيش.



أولئك الذين يتمكنون من الوصول إلى السواحل اليمنية، ومواصلة السير، هم المحظوظون فقط؛ فعدد ليس بقليل منهم قد يموت أثناء الرحلة البحرية في خليج عدن، أو يهلك غرقاً عندما يُضطر المهربون إلى رمي الركاب في عرض البحر خوفاً من الكشف عنهم. يقوم بعض المهربين أحياناً بدفن مَن يتمكنون من دفنه في مقابر سرية في البر اليمني، كشبوة؛ إذ يمتلك بعضهم مقابر مُعدة لهذا الغرض، حسب تقرير حديث لصحيفة “لوموند” الفرنسية.



أولئك الأوفر حظاً من المهاجرين الإفريقيين يواصلون السير إلى محافظة عدن، التي تبعد نحو 423 كيلومتراً إلى الغرب من بئر علي بشبوة. تتطلب الرحلة سيراً على الأقدام نحو ثلاثة أيام، يقضيها المهاجرون دون توقف تقريباً طوال الخط الأسفلتي الرئيس المؤدي إلى المدينة. ومن عدن، يتوجه المهاجرون في مجموعات إلى شمال اليمن للاستقرار ببعض المناطق الزراعية عند معارف لهم سبق أن نجحوا في رحلتهم، كما يواصل آخرون المسير نحو أقصى الشمال وصولاً إلى السعودية.

فريق “كيوبوست” التقى، في وقتٍ سابق، إحدى المجموعات المهاجرة بين شبوة وعدن. تتكون المجموعة من نحو عشرة أشخاص، لا أحد منهم يتحدث “العربية” سوى قائد المجموعة؛ وهو شاب كان يعمل مدرساً في إثيوبيا، حسب إفادته. كانت الوجهة النهائية التي تقصدها المجموعة هي مديرية رداع بمحافظة البيضاء، التي يقع معظمها تحت سيطرة الحوثيين في وسط اليمن، للعمل في مزارع القات المنتشرة هناك. وحسب شهود عيان، تلاحظ وجود أعداد كبيرة من الإثيوبيين يعملون في مجال زراعة القات في مديرية رداع منذ سنوات، في ما يبدو أنه مجال يقع ضمن خبرات الإثيوبيين المعتادين على هذه الزراعة في بلدهم الأصلي إثيوبيا؛ وهي مصدر القات الذي جاء إلى اليمن قبل مئات السنين، حسب بعض الروايات.



ولكن العمل في مجال زراعة القات ليس سوى أحد الخيارات المتاحة، تشمل الخيارات الأخرى العمل في مدن يمنية أخرى في مهن مختلفة كتغسيل السيارات، وجمع النفايات والخُردة، كما يهاجر آخرون إلى السعودية بطرق غير شرعية أيضاً.

أما الجانب الأكثر ظلاماً فهو ضم المهاجرين الأفارقة إجبارياً إلى المتمردين الحوثيين أو الجماعات الإرهابية؛ إذ لطالما كان هناك تواصل واضح ومعروف بين تنظيم القاعدة في جزيرة العرب، وحركة الشباب الصومالية، وشمل ذلك التواصل التدريب وتهريب الأسلحة. كما يستغل الإيرانيون أيضاً علاقاتهم بحركة الشباب الصومالية لتهريب الأسلحة إلى المتمردين الحوثيين.

وحسب المنظمة الدولية للهجرة، فإن المهاجرين الأفارقة قد تعرضوا إلى الإجبار على القتال في الجبهات الأمامية لصالح جماعات لم تسمهم المنظمة؛ لكن وزير الإعلام اليمني، معمر الإرياني، سبق أن اتهم الحوثيين بتجنيد المهاجرين لتغطية عجزهم البشري. وأفادت صحيفة “الشرق الأوسط”، وعدة تقارير إعلامية أخرى، قيام المتمردين الحوثيين بحملات تجنيد إجبارية لأفارقة في العاصمة صنعاء ومناطق أخرى خاضعة لسيطرتهم.



أضافت جائحة كورونا العالمية المزيد من البؤس إلى قصص المهاجرين الأفارقة في اليمن؛ حيث يتم نبذهم ووصمهم بالمرض، بل وتخويفهم وإجبارهم على الهرب، وحتى قتلهم بشكل جماعي. ووفقاً لأحد التقارير الصادرة عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”، فإن المقاتلين الحوثيين طردوا قسراً آلاف المهاجرين الإثيوبيين من مناطق في شمال اليمن، أواخر العام الماضي؛ بذريعة إصابتهم بفيروس كورونا، وقد أدت عملية التهجير القسرية تلك إلى مقتل العشرات منهم.



وحسب “هيومن رايتس ووتش” فإن جماعة الحوثي قد زجَّت بمهاجرين إفريقيين بالقرب من الحدود السعودية؛ زعماً أنهم يحملون فيروس كورونا، وأطلق المتمردون النار على كل من حاول الهرب منهم. وأفادت ناجية إثيوبية أن الحوثيين قد أطلقوا قذائف الهاون على مجموعة من 45 إثيوبياً؛ ما أدى إلى مقتل 40 شخصاً منهم.

وحسب مطلعين على ملف المهاجرين الأفارقة، والذين تحدثوا إلى “كيوبوست”، شريطة عدم الإشارة إلى هويتهم لأسبابٍ أمنية، فإن المتمردين الحوثيين قد يستغلون الأفارقة في عمليات زرع الألغام، أو العمليات الاستطلاعية والاستخباراتية، إضافة إلى المهام التي يُنظر إليها بدونية، أو الشاقة؛ لخدمة القوات المتمردة في المعسكرات، كالتحميل والتغسيل والتنظيف؛ وربما هذا ما يفسِّر عدم العثور على جثث لمهاجرين أو لاجئين أفارقة بين صفوف قتلى الحوثيين أو بين الأسرى حتى الآن.

ومما يجدر ذكره هو أن ما يتعرض له المهاجرون الأفارقة من تنكيل ومخاطر على يد الحوثيين لا يقتصر على الشباب والرجال فحسب؛ بل حتى الأطفال والنساء عُرضة لمختلف صنوف القسوة والإذلال والاستغلال، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية والتعذيب. لا يترك المهاجرون بلدانهم بحثاً عن لقمة العيش أو هرباً من الصراع أو الاضطهاد فحسب؛ بل أيضاً للقاء أقاربهم في اليمن أو السعودية. وحسب حديث مهاجرة إثيوبية شابة إلى “كيوبوست”، فإن ما دفعها لخوض هذه التجربة الفظيعة هو لم الشمل مع خطيبها الذي يعمل في السعودية.



يعود الارتباط بين اليمن والقرن الإفريقي إلى آلاف السنين، معززاً بالتجارة والعلاقات المتينة والمتداخلة؛ لكن هذا الارتباط اليوم أصبح مثالاً قبيحاً لتفكك الأُسر، وقطع المعايش، والاستغلال، والتهريب، والإجرام. لا يمكن إصلاح هذا النظام الخارب إلا بمساعداتٍ دولية على أسسٍ تلم شمل الأُسر، وتحسن الاقتصادات، وتعزز الرقابة الصارمة، وتحترم الإنسانية قبل كل ذلك.

21 يناير 2021

هاشتاغ

التعليقات