عربي ودولي

النظرة الدونية تقف عائقاً أمام اندماج الشباب الموريتاني في المهن الحرة
النظرة الدونية تقف عائقاً أمام اندماج الشباب الموريتاني في المهن الحرة
انتقد الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني عزوف البعض من الشباب عن ممارسة مهن “يُنظر لها بدونية”، وقال إنه “لم يعد مقبولاً أن يتم توفير العديد من فرص العمل في البناء أو الزراعة ثم تؤول إلى العمالة الأجنبية”، ليضيء الرئيس على ظاهرة تؤرق المجتمع الموريتاني وتؤثر سلبا على الشباب وعلى اقتصاد البلاد مع تفاقم البطالة بسبب وصمة العار لمهن أساسية رغم النظرة السلبية لها.

وأضاف الرئيس خلال استضافته مجموعة من الشباب في إفطار جماعي بقصره الرئاسي، الأسبوع الماضي، أن الشباب فضل خوض غمار مسارات الهجرة غير النظامية المحفوفة بالمخاطر عن العمل في هذه المهن. ورأى أن إطلاق مشروع مدرّ للدخل يؤسس حياة كريمة في موريتانيا تكفيه عن خوض غمار الهجرة غير النظامية.

وتطرح مشكلة البطالة تحدياً سياسياً واجتماعياً وتنموياً أمام الحكومة الموريتانية، وتسعى السياسات العمومية في مجال التشغيل إلى تخفيف أعداد العاطلين من العمل، باستحداث مشاريع وتغيير نظرة بعض الشباب إلى الأعمال الحرة التي يعتبرها غير لائقة، إضافة إلى تشجيع آلاف الشبان الموريتانيين للتوجه إلى ريادة الأعمال والتكوين المهني الذي تحتاج إليها سوق العمل الموريتانية.

وقال الرئيس إنه “مدرك حق الإدراك ما تشكله البطالة من عبء ثقيل على الشباب، كما هي كذلك بالنسبة للشباب في العالم كله، لكنني متيقن من أننا بفضل استمرارنا في ترقية التعليم والتكوين المهني، وتسهيل حصول الشباب على التمويل المناسب، وتطوير أدوات الدعم لريادة الأعمال الشبابية، سننجح بحول الله وقوته في عكس منحنى البطالة والهجرة غير النظامية”.

وتقف العقليات الاجتماعية عائقاً في وجه اندماج الشباب الموريتاني في المهن الحرة التي يعزف معظمهم عن ممارساتها. وذكر الباحث الاقتصادي الحسين محمد عمر أن هناك “شباباً يرفضون أن يكونوا بنائين أو لحامين أو عمال استقبال أو تنظيف في فندق، لأن المجتمع يعيب صاحب هذه المهن، فهو مجتمع غير عملي، بل اتكالي إلى أبعد الحدود، والدليل على تأثير مسلكيات المجتمع، أن من يرفض مهناً معينة في موريتانيا يمارسها حين يكون في سوق عمل حقيقية لأن سلطة المجتمع غائبة”.

البيئة الاجتماعية تعيب أصحاب بعض المهن لذلك لا تشجع كثيراً على الإنتاجية والتوفير وخلق المشاريع الصغيرة وتطويرها

وهناك نظرة مجتمعية ما زالت سائدة تنظر بنوع من الدونية إلى بعض الأعمال وتحول دون ممارستها من طرف الشباب العاطلين من العمل، كما أن البيئة الاجتماعية عموماً لا تشجع كثيراً على الإنتاجية والتوفير وخلق المشاريع الصغيرة وتطويرها.

ولا تقف عقبات تشغيل الشباب عند النظرة الاجتماعية فقط، بل تتعداها إلى عوامل عدة أخرى، من بينها أن آلية التوظيف العمومي التقليدية ليست قادرة على استيعاب الأعداد الكبيرة من حملة الشهادات الذين يزدادون سنوياً، كما أنه لا توجد سياسات فعالة لخلق وظائف كثيرة في القطاع الخاص المصنف، ولذا ينتهي الأمر بكثيرين إلى العمل في القطاع الخاص غير المصنف أو البقاء كعاطلين من العمل، وبخاصة في أوساط النساء.

واستحدثت الحكومة الموريتانية قبل سنوات حزمة مشاريع موجهة لتشغيل الشباب، ممولة من الدولة أو من شركاء موريتانيا في التنمية، ومن أهم تلك المبادرات الحكومية “مشروعي مستقبلي” الذي يهدف إلى تمويل مشاريع مدرة للدخل ومواكبة الشباب الراغبين في دخول مجال ريادة الأعمال والمقاولات.

وبحسب السالك زيد المسؤول الإعلامي لـ”مشروعي مستقبلي”، فقد مولت هذه المبادرة التي تتبع لوزارة التشغيل والتكوين المهني، 482 مشروعاً في النسخة الأولى منها وفي النسخة الثانية تخطى عدد الشباب المستفيدين من التمويلات الـ603 أصحاب مشروع، وفي نسختها الحالية وهي الثالثة على التوالي، بلغ العدد 1713 مستفيداً، مما خلق فرص تشغيل مباشرة لـ8355 شاباً وفتاة.

ويحظى المشروع الذي هو ثمرة شراكة مع وكالة التنمية الفرنسية باهتمام آلاف الشباب الموريتانيين الراغبين في تمويل مبادرات فردية تخرجهم من دائرة البطالة.

وأضاف زيد “يملأ الراغبون في الحصول على تمويل من المشروع لمبادراتهم استمارات يقدمون فيها نقاط موجزة عن أفكار مشاريعهم. ويشترط للقبول ألا يكون المتقدم يعمل في الوظيفة العمومية”. كما يشترط في أي مشروع توفير ثلاث فرص عمل لشباب.

نظرة اجتماعية
وتابع “استفاد شباب من طبقات هشة لم يكن لهم أن يجدوا فرص تمويل لمشاريعهم من قبل المؤسسات المالية بسبب شروطها القاسية، بينما يتم تمويل مشاريعهم من قبل المشروع بقروض ميسرة تراعي وضعياتهم وتتم مواكبتهم بالتكوين والتأطير من البداية من أجل استمرارية مشاريعهم”.

وبهدف معالجة مشكلة عزوف الشباب عن المهن المطلوبة في موريتانيا، نظم الأمين العام لوزارة التشغيل والتكوين المهني، شيبة حبيب سيدي مولود، ورشة تشاورية حول العوائق النفسية والاجتماعية لممارسة الشباب الموريتاني لبعض المهن المطلوبة في سوق العمل.

وتهدف الورشة، إلى التشاور حول دراسات واقتراحات تعالج عزوف بعض الشباب عن ممارسة بعض المهن والحرف الموجودة في سوق العمل. وأوضح الأمين العام للوزارة أن ما يتمتع به البلد من إمكانيات اقتصادية كبيرة ومتنوعة توفر فرص عمل كثيرة في قطاعات عديدة وواعدة مثل التنمية الحيوانية، والزراعة والصيد، وقطاع الأشغال العمومية والخدمات، مشيرا إلى أن سد هذه الثغرة لا يمكن إلا عبر نبذ الكسل والاتكالية من طرف الشباب الأمر الذي سيؤدي حتما إلى خفض البطالة بين صفوف الشباب بشكل كبير.

وأكد أن الاستفادة من هذه الفرص بالشكل المناسب مرهونة بوجود يد عاملة تتمتع بالكفاءة، وتسعى لخدمة تنمية بلدها متخلصة من جميع العقليات المعيقة والنظرة السلبية المجتمعية لممارسة بعض المهن والحرف، ومستعدة لمحاربة هذه الظاهرة المشينة .

وذكر بالالتزامات التي قطعها الغزواني، في برنامجه الانتخابي “تعهداتي” بإنشاء مصالح عمومية تهتم بالطلب المجتمعي، وقادرة على تلبية احتياجات السوق الحالية، ومجاراة التحولات الاقتصادية المستقبلية، الأمر الذي سيشكل أساسا لنمو مختلف قطاعات الاقتصاد في بلادنا.

ظروف اقتصادية تحكم
ومن جانبها أوضحت مديرة الوكالة الفرنسية للتنمية بندكت بروست، عن استعداد هيئتها للمشاركة في ترقية قطاع التشغيل والتكوين المهني في موريتانيا، مؤكدة أن طرح موضوع إشكالية عزوف الشباب الموريتاني عن ممارسة بعض المهن والحرف في سوق العمل يأتي في صلب اهتماماتها.

وفي مقابل عزوف الشباب عن العمل في العديد من المهن، يقاوم قطاع المهن التقليدية، ظروفا وتحديات متعددة يتصدرها كساد الأنشطة بسبب ضعف الإقبال. ولا تقتصر أهمية الصناعة التقليدية بالنسبة لموريتانيا فقط على مردودها المادي كأنشطة تجارية إنتاجية، بل تتعدى ذلك إلى إسهاماتها الثقافية كتراث عريق للبلد.

ويعمل صدفي ولد أجميلي في ورشة صغيرة، بمنطقة “المعرض” في نواكشوط كل يوم، ولا يتحسّر على واقع الكساد الذي يرى أنه مرتبط بالظروف الاقتصادية التي بإمكانها أن تتغير نحو الأحسن، لكن الأسى والمرارة، بالنسبة له هي في هجر تلك الحرفة من طرف الأجيال الصاعدة مما ينذر في رأيه بموت هذه الصناعة مع نهاية جيلها الذهبي.

ولا تقتصر إسهامات الصناعة التقليدية الموريتانية، على ما لعبته تاريخيا من أدوار في سد حاجيات المستهلك من أدوات ومعدات كان يحتاجها في حياته اليومية، بل أصبحت منتجات هذه الصناعة اليوم كذلك، محفظة لتراث جميل من الإبداع المتسلسل عبر العصور، وميدان لإنتاج تحف فنية، ومعدات لا يزال يكثر عليها الطلب.

ويتحدث الصانع السبعيني مصطفى ولد محمدن ولد أعلي عن الصناعة التقليدية كأنما يحكي قصة حياته بالمجتمع الموريتاني، حيث “كان الصانع التقليدي محور حياة الناس، وهو الملجأ في كل ما يحتاجونه، يصنع أدوات الإنتاج، وأثاث البيت وسروج الخيل، ويصنع البنادق.. باختصار كان حاضرا في كل تفاصيل الحياة القديمة لهذا البلد”.

والحرفة التي خطف بريقها الأبصار تاريخيا وشكلت منتجاتها قوام حياة الموريتانيين، يشبه واقعها اليوم في كثير من تفاصيله واقع حياة مصطفى، فقد أصابتها الشيخوخة مثله، وبات مردودها ضئيلا ككسبه منها، لا يكاد يمارسها غير شيوخ ارتبطت حياتهم بها، فلم يبق أمامهم إلا التمسك بها من أجل لقمة عيش يحصلون عليها بكثير من الجهد والعرق.

البيئة الاجتماعية تعيب أصحاب بعض المهن لذلك لا تشجع كثيراً على الإنتاجية والتوفير وخلق المشاريع الصغيرة وتطويرها
ويقول مصطفى أن الصناعة التقليدية بموريتانيا حرفة متوارثة في فئة بعينها تسمى محليا “لمعلمين” أو “الصناع”. ورغم اعتزاز أهلها بها فإن شيوخها لا يريدون اليوم توريثها لأبنائهم، الذين يحرصون “على توجيههم لمهن وحرف أخرى، شفقة عليهم من واقع مزرٍ اقتصاديا واجتماعيا تعيشه الحرفة وأهلها”.

ويعتبر المنشغلون بالقطاع أن هنالك جملة من العوامل الاجتماعية والاقتصادية كانت وراء ذلك، فالبعض يرى أن تهميش الشريحة ذاتها والنظرة النمطية لها السبب الرئيسي لما تعانيه الصناعة.

لكن آخرين يرون أسبابا أخرى، فعضو اتحادية الصناعة التقليدية والحرف ومسؤولها الجهوي بانواذيبو محمد يحيى ولد الكنتاوي يقول إن هذه الحرفة تعاني مشاكل تتعلق بالتنظيم والتسويق والتمويل “فالوزارة المكلفة بالصناعة التقليدية لا تزال عاجزة عن رسم سياسة لتنمية القطاع وتنظيمه وخلق بنى تحتية أساسية” يوجد فيها أهل المهنة “والتنظيمات المهنية ليست قادرة على رفع التحديات التي يواجهها الصانع التقليدي”.

ويضيف ولد الكنتاوي أن “الصناعة التقليدية رغم جودتها العالية تعاني من عدم التسويق، فالدولة لم تتول الأمر، والمهنيون غير قادرين على تحمل أعباء التعريف بمنتوجاتهم، وعندما يحين موعد أحد المعارض التي ينتظرها الصناع بفارغ الصبر للاستفادة منها في التسويق يقوم المسؤولون في الوزارة بتقمص شخصيات الصناع التقليديين فتضيع الفرصة على هؤلاء الذين انتظروها طويلا”.

ومعالجة هذه الوضعية تتطلب في نظر أهل الحرفة أن تقوم الدولة بإنشاء مراكز للتكوين يقدم من خلالها شيوخ المهنة خبرتهم، كما يتطلب توفر آليات للتمويل، وضمان تسويق المنتوج وحمايته في وجه المنافسة، وهي مقترحات يرى المسؤولون في إدارة الصناعة وجاهة الكثير منها.

ويقول مدير الصناعة التقليدية إبراهيم ولد إندح إن “القطاع عمل على تنظيم المنشغلين بالحرفة وأصدر النصوص القانونية اللازمة لذلك، وبذل جهودا متواصلة لتكون هنالك تنظيمات مهنية للصناع التقليديين قادرة على طرح قضاياها والإقناع بها، تماما كالتنظيمات المهنية الأخرى الناشطة”.

ويضيف ولد اندح أن “الوزارة تعمل الآن على خلق بنى تحتية حديثة للقطاع تتمثل في إنشاء مجمع حديث يضم قرية للصناعة التقليدية في نواكشوط، ومعرضا للمنتوجات، وقد وصل هذا المشروع مراحل متقدمة”.

وبخصوص التكوين، يرى ولد اندح أنه “حين يتوفر الشريك المهني الفاعل سيكون بالإمكان إضافة شعب وتخصصات في مراكز التكوين المهنية القائمة تعنى بالصناعة التقليدية، وحينها ستنتقل من مهنة متوارثة إلى تخصص علمي، وبذلك تفرض نفسها وتستعيد ألقها”.

14 أبريل 2024

هاشتاغ

التعليقات