عربي ودولي

تنافس صامت بين بلدان شمال أفريقيا
تنافس صامت بين بلدان شمال أفريقيا
المتتبع لمسار تسوية الأزمة الليبية، التي تقترب من دخول عامها العاشر، يقف على حقيقة مفادها أن البلدان العربية في شمال أفريقيا دخلت في تنافس صامت في ما بينها من أجل نزع فتيل التوتر نهائيا بين الفرقاء الليبيين. ورغم أنها استضافت العديد من اللقاءات على مدار الأشهر القليلة الماضية تحت رعاية أممية لتسريع عملية السلام وإخماد أصوات البنادق، فإنه من الواضح أن الطريق لا يزال طويلا بالنظر إلى تعقيدات المشهد السياسي وتقاطعاته العسكرية والأمنية والاقتصادية.

 تزايدت التحركات السياسية التي تقوم بها دول الجوار العربي لحل الأزمة الليبية، أملا في التوصل إلى تفاهمات تضع حدا لها، بعضها جاء مسنودا مباشرة من البعثة الأممية للدعم، وبعضها خرج من رحم اجتهادات تريد التعجيل بتسوية سياسية بعيدة المنال.

وأدى هذا الوضع إلى تصاعد حدة التعقيدات على الملف الليبي وأرخى بظلال سلبية على مصالح دول الشمال الأفريقي، وهي المغرب وتونس والجزائر ومصر.

واستضاف المغرب في مدينة طنجة جلسة تشاورية لأعضاء البرلمان الليبي، الأربعاء الماضي، لتوحيد رؤيتهم في التعامل مع الأزمة، على ضوء تطورات شهدتها عقب جلسات ملتقى الحل السياسي في تونس برعاية الأمم المتحدة، والتي حضرها 75 شخصية ليبية، تستعد حاليا للاجتماع مرة أخرى الشهر المقبل.

وجرى تفسير الملتقى على أنه يمهد لخلق جسم تشريعي بديل لمجلس النواب، الذي يسعى إلى توحيد كلمته في طنجة، ويعتزم عقد اجتماع في غدامس يعزز وجوده في المعادلة الليبية، كجهة تشريعية ورقابية منتخبة من الشعب.

ووجه رئيس البرلمان المصري علي عبدالعال دعوة لرئيس البرلمان الليبي في طبرق عقيلة صالح، ومن يريد الحضور من النواب، لعقد جلسة في القاهرة يوم 24 نوفمبر الجاري، ولم يتم انعقادها، وبدلا من ذلك قام عقيلة بزيارة مفاجئة إلى موسكو في التوقيت نفسه تقريبا.

وتنقلت اجتماعات الليبيين السياسية والعسكرية والاقتصادية بين محطات رئيسية خلال الأسابيع الماضية، هي سويسرا ومصر والمغرب وتونس وليبيا، وإذا نحينا جانبا الأولى والخامسة (سويسرا وليبيا)، نجد أن دول الجوار العربي الثلاث استقبلت خلال الفترة الماضية العديد من القوى السياسية الليبية، فرادى وجماعات، وجرت مناقشات تحت مسميات متباينة، وكلها تصب في مربع البحث عن تسوية غائبة.


تتسم اللقاءات التي تعقد في المغرب بالحرص على مواصلة ما قام به في اتفاق الصخيرات، وإذا كان الاتفاق فقد دوره السياسي ويحتاج إلى تعديلات فمن الحكمة إتمامها في الدولة التي شهدت ولادته لأول مرة قبل حوالي خمسة أعوام.

وتتسم أيضا بالتركيز على الطابع السياسي، حيث احتضن المغرب اجتماعات في بوزنيقة، ضمت شخصيات من البرلمان الليبي في طبرق، والمجلس الأعلى للدولة الذي يرأسه الإخواني خالد المشري.

وبدت نتائجها مقبولة في نظر البعض، وتعبر في مجملها عن تجاوز لمرارات سابقة، ورآها آخرون تنطوي على صفقات بين المجتمعين، لتوزيع المناصب في الفترة المقبلة.

وتدور محادثات ملتقى تونس في الفلك السياسي ذاته، وأضحت تونس والمغرب بعيدتين تقريبا عن الشق العسكري، والذي يعد شاغلا رئيسيا في الأجندة المصرية، ويمثل أولوية كبيرة لها، حيث ترى أن أي تقدم على المستوى الأمني سوف يقود إلى تطور على المستوى السياسي، بينما العكس لن يكون صحيحا.

وعانت القاهرة كثيرا من تداعيات الفوضى في ليبيا، وهددت أمنها القومي، وتراها مسؤولة عن جلب التدخلات التركية والمرتزقة والإرهابيين، ووفرت الفرصة للقوى المتطرفة للتمركز في الأراضي الليبية، والتي تحمل شرا لكل دول الجوار.

وأصبحت على يقين أن توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية هو الطريق الرئيس لوقف التدخلات الخارجية، وفتح المجال أمام تسوية واعدة، ما جعلها تولي اهتماما بالجيش الوطني الليبي وقائده المشير خليفة حفتر ولا تخفي دعمها له، وتقف موقفا متشددا من الميليشيات، والجهات السياسية التي قبلت دعمها في طرابلس.

ولم تنعكس تداعيات الفوضى في ليبيا كثيرا على دول المغرب العربي، باستثناء تونس، التي بدأت تشعر بالخطر بعد وقوع عمليات إرهابية لها روافد خارجية مؤخرا وتتخذ إجراءات أمنية بالداخل لتنأى عن الارتدادات القادمة من الأراضي الليبية.

وكبلت الأزمات الداخلية في الجزائر قدرتها على الاشتباك الجاد مع الأزمة، وأخفقت الإشارات التي بعثت بها عقب انتخاب الرئيس عبدالمجيد تبون في أن تحظى بالالتفاف حولها، لأنها جاءت مرتبكة تارة، وغير محددة الملامح تارة أخرى، والتزمت بالمزيد من الهدوء، وبعيدة عن التطورات المتلاحقة، دون اشتباك مباشر مع الأزمة.

ترتيب الأولويات
أدى الاختلاف في أولويات التعامل مع الأزمة إلى تباين في آليات التعاطي معها، وأخذ شكلا صامتا في غالبية الأحيان، عكس عدم الرغبة في أن تتحول الأزمة في ليبيا إلى مشكلة بين دول الجوار، وخرجت الاجتماعات المتفرقة، التي عقدت تحت مسمى دول الجوار الليبي فارغة من المضامين الحقيقية، ولم تحرز تقدما يؤهلها لتكون بوابة للتسوية.

وتسببت التقديرات المتفاوتة بين دول الشمال الأفريقي في انقسامهم إلى معسكرين، أحدهما تقف فيه مصر بمفردها، ويرى ضرورة إقصاء التيار الإسلامي عن الحكم في ليبيا، بل وتحميله مسؤولية تصاعد العنف في المنطقة، وفي أحسن الأحوال يمكن مشاركته بالدرجة التي تتماشى مع نسبته في الشارع، ولا تتجاوز 20 في المئة.


ويتبنى المعسكر الآخر، ويضم الدول الثلاث المغرب والجزائر وتونس، رؤية مختلفة ترى ضرورة منح التيار الإسلامي فرصة للمشاركة في السلطة، ولا ضير من وجوده بنسبة كبيرة، طالما أنه يستطيع الحصول عليها بالطريق السياسي، الذي يؤهله للحكم أو التحالف مع شركاء يقبلون به، مع التفرقة بين معتدلين ومتشددين.

وتحت وقع تطورات دولية كثيرة، وصلابة في مواقف المغرب وتونس والجزائر، رفعت القاهرة اعتراضها نسبيا، وفهم عدم ممانعتها لمشاركة التيار الإسلامي في الحكم بلا هيمنة، واستضافت لقاءات لممثلين عن مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة منذ حوالي شهرين، تحت شعار سد الفجوة المناطقية، بين الشرق والغرب.

وتنطلق رؤية كل معسكر من خبرته المتراكمة مع التيار الإسلامي، فالتجربة القاتمة التي مرت بها مصر مع جماعة الإخوان والمتشددين أوصلتها إلى هذه النتيجة السلبية، بينما التجربة المرة التي مرت بها الجزائر والمعروفة بـ”العشرية السوداء” هي أيضا التي أدت بها إلى المرونة والتكيف مع التيار العقائدي، وهو ما يؤيده المغرب وتونس، بناء على خبرة كليهما السياسية في التعامل المنهجي مع الإسلاميين.

وتعد هذه النقطة البوابة الواسعة التي باعدت في أوقات كثيرة بين مصر من ناحية، والمغرب وتونس والجزائر من ناحية ثانية، وعطلت الوصول إلى تفاهم مشترك وإيجاد حل إقليمي للأزمة يمكن تبنيه في الحوار مع الأطراف الدولية المنخرطة فيها.

وربما تكون هذه الزاوية واحدة من المعضلات التي جعلت المسافة بعيدة بين القوى الكبرى المعنية، حيث تقترب فرنسا من رؤية مصر، وتنحاز بريطانيا وإيطاليا والولايات المتحدة، ومعها تركيا، لرؤية الدول الثلاث، حيث انتقل الخلاف الصامت بين دول الشمال الأفريقي إلى المستوى الدولي، وكشفت محكّات كثيرة عن تفاصيل عدة تتعلق بهذه المشكلة، ولعبت دورا مهما في تفشيل بعض المبادرات.

بينما ترى مصر ضرورة إقصاء التيار الإسلامي عن الحكم في ليبيا، تتبنى كل من تونس والجزائر والمغرب رؤية مغايرة لذلك

وتميل القاهرة الآن إلى تعزيز الانفتاح، وتخفيف الميل نحو قوى عسكرية وسياسية معينة، لأن الأزمة دخلت في مرحلة حاسمة، يمكن أن تترتب عليها نتائج تحدد مستقبل الحكم في ليبيا، ولذلك عجّلت مصر من حواراتها مع قوى في الغرب الليبي، كي لا يتم حصر دورها في نطاق الشرق مستقبلا.

كما عدّل كل من المغرب وتونس من رؤيته للقوى الفاعلة، وبدآ التوسع في الانفتاح على قوى من الشرق والجنوب، ولم يعد الاهتمام منصبا على الغرب بصورة تقليدية، فالمؤشرات الظاهرة للحل تراعي جميع المكونات المناطقية، لأنّ تفوق جهة واحدة كفيل بعدم التوصل إلى تسوية مستقرة.

وكما عانت مصر من نتيجة انحيازها للشرق، عانى المغرب من اتهامه بالإنحياز للغرب، وتجلياته الظاهرة في اتفاق الصخيرات، وأزالت الرئاسة في تونس الكثير من الالتباسات في التوازنات السياسية.

وهي علامات يمكن أن تجعل من الدول الثلاث ركيزة للحل دون منافسة، لأن الكلام الصامت والرمادي، الذي يخيّم على العلاقة بين الدول الثلاث، يمكن تفسيره لصالح تضافر الجهود لحل الأزمة الليبية، واستغلال اللحظة الراهنة قبل فوات الأوان.

27 نوفمبر 2020

هاشتاغ

التعليقات