عربي ودولي

ممثلة تموت بجرعة مفرطة من الأمل
ممثلة تموت بجرعة مفرطة من الأمل

في تناول رمزي لحكاية وجع إنساني دفين يلوك آلاما نفسية عميقة، يقدّم فيلم “عنها” دفقا من الأحداث السينمائية التي تتساوق أحداثه حينا وتتعارض حينا آخر، لتقدّم قصة تجمع الأنا بالكل والشخصي بالعام في جدلية حكائية تصل في خواتيمها إلى حدود الفجيعة.

الفيلم لا يقدّم حكاية تقليدية يتصاعد فيها مسار الحدث الدرامي وصولا إلى الذروة ثم التوجه نحو الحلّ، بل يبني لنفسه خطا دراميا يعتمد على جمع شظايا إنسانية مبعثرة تخصّ امرأة واحدة سلبتها الأيام الكثير من هدوء البال والسكينة، فصارت بركانا من القلق الذي لم يفقد القدرة على الأمل.


آمال محطّمة
“عنها” فيلم روائي قصير أنتجته المؤسسة العامة للسينما عن نص ألفته وأخرجته الفنانة السورية رباب مرهج. مكان الحدث فيه مساحة لا تتعدّى المئات من الأمتار، لكن فضاءه الوجداني لا تحدّه آفاق.

ففي قلب مدينة دمشق، حيث مسرح الحمراء وسينما الشام وما بينهما فندق الشام ومقهى البرازيل تكمن واجهة الأحداث التي تجمع الشخصي والعام، المسرح والسينما، الصديق والعدو، الصادق والكاذب.. ليخلق كل ذلك شلالا من الذكريات التي تحوط ممثلة عانت وأحبت وتزوّجت وطعنت وتألمت، ثم انتهت بشكل مأسوي، تحت لوحة إعلانية كبيرة تحمل عبارة مباغتة “ماتت بسبب تناولها جرعة مفرطة من الأمل”. إنه تداخل الأزمنة وتماهي الشخوص وتكامل الأحلام نحو صناعة شخص خائب، محطّم بالتفاؤل وبالأمل.

رباب مرهج شكّلت في فيلمها الروائي القصير الثاني عالما مليئا بالفوضى الجميلة، ففي تفاصيل العمل شخوص غريبة قد لا نراها في أفلام أخرى، مقنّعون ومتشرّدون وعبثيون وضمير شخصي يظهر على شكل إنسان يرافق صاحبته في حياتها.

عن فيلمها تقول مرهج “فيلم عن امرأة أو مدينة، دمشق أو القاهرة أو بغداد وربما بيروت أو غيرها.. يروي حكاية قد تجري وقت الحرب أو السلم، هو محاولة للاستمرار في الحياة رغم كل الادعاءات والمتناقضات التي يمكن أن تقدّمها. فيلم يقدّم كل الألوان ويحاول أن يتواصل مع الآخر مهما كان الاختلاف بينهما حتى في أبسط البديهيات. الفيلم يحكي عن امرأة أو مدينة وكيفية تعاطي المحيط معها، ثم كيفية التخلي عنها وبيعها والغدر بها وخيانتها”.

ولعل من أهم ما قدّمه الفيلم حالة التماهي بين الشخصي والعام، ما بين حكاية أنثى ومدينة، فكلاهما يحمل الحب والأحلام وكلاهما يحب الحياة، لكنهما تعرضتا للظلم والغدر والخيانة، وعلى امتداد زمن الفيلم قدّمت مرهج حكايتهما معا، وفي لقطة نهائية، ترصد الكاميرا كيف تحوّل الألم الشخصي إلى ألم مدينة على خلفية صورة تقدّم شعرا عن الوطن.

في فيلمها الأول “الوجه الأول.. أمي” الذي حاز ذهبية مهرجان سينما الشباب والأفلام القصيرة في دورته السادسة، قدّمت مرهج محاولة في توثيق حالة اجتماعية شديدة الذاتية.

وكان ذلك بتحقيق فيلم دكيودراما عن والدتها وبعض شخوص حياتها العائلية المحيطين بها. لكنها في فيلم “عنها” تطرح حالة روائية بشكلانية غريبة تتماهى مع بعض الأفلام الأوروبية، خاصة ما يطرح المخرج البوسني الشهير أمير كوستاريكا، حيث الشخوص الغريبة والأحداث التي تبدو غير منطقية، وهذا ما رسمه الفيلم منذ المشهد الأول.

فهناك رجل يخطب في مجموعة من الناس يرتدون أقنعة مختلفة، بينما تغادر البطلة مبتعدة وقد ظهرت على يسارها وفي أرضية الشارع شاشة تلفزيون تعرض صورا مشوّهة ويلحق بها طفلان يمسكان بثوبها الطويل، وبعد حين نكتشف وجود شخصية مرافقة للبطلة في الفيلم تكون ضميرها الذي يظهر بشكل شخصية سينمائية تتماهى مع شخصية الممثلة في تفاصيل حياتها اليومية.

هواجس مُربكة

في الفيلم هواجس مركّبة ومُربكة في آن واحد، وأيضا مونولوغات متتالية توضّح معنى وجوهر الشخصية، عن ذلك تقول مرهج “أردت رواية عوالمي الداخلية والكثير من المونولوغات التي تظهر في مخيلتي. أردت أن أروي حكاية مكان وثيق الصلة بالمثقفين السوريين والعرب وحتى الأجانب الذين كانوا يأتون إلى دمشق. فهنا مسرح الحمراء وسينما الشام أيام مهرجان دمشق السينمائي، وهنا الكثير من القصص والحكايات عن مسرحيات وشخوص وأصدقاء وأحداث”.

وتضيف “هذا المكان  خاص جدا بالنسبة لي ويشحنني بالكثير من الذكريات والأحلام والمونولوغات، أردت جمعها معا لنحتسي جرعة مفرطة من الأمل، ثم ننام بعدها بهدوء.. متناسين آلامنا”.

وعن الرمزية في الفيلم وصياغته بتركيبة تحمل لغة الدلالات والإشارات، تقول “‘عنها’، فيلم مختلف، يجمع بين المتناقضات، الشخصي والعام، الذاكرة والنسيان، الحرب والسلم، الحب والحقد، المباشرة والرمز، السهولة والصعوبة.. إنه فيلم كالوطن الذي نعيش فيه يحتوي على كل شيء. موضوعه المختلف حتّم علينا أن نحكيه بطريقة مختلفة، وهذا ما كان”.

تتابع مرهج “هو محاولة لتقديم وجهة نظر تجاه أشخاص مختلفين عنا حتى التناقض، كان هدفي الأول منه خلق هذا الحوار، أردت رواية شيء عن الحرب بشكل مختلف بعيدا عن الفجائع والدماء. فيه رفض للسائد والقائم اليومي في حياتنا، قد يكون صعبا في هذا الوقت تقديم هكذا وجهة نظر، لكنها محاولة جادة”.

روبين عيسى التي قدّمت شخصية الممثلة في الفيلم، باتت صاحبة حضور قويّ في السينما السورية الحديثة، فقد ظهرت في العديد من الأفلام الطويلة والقصيرة مجسّدة أدوارا متنوّعة.

وفي فيلم “عنها” تقدّم تجربة مختلفة من حيث المضمون أو الشكل، تحدّثت عنه لـ”العرب”، قائلة “الفيلم فيه تحدّ كبير، وهو يجسّد كيفية محاصرتنا بالعبث في حياتنا اليومية ثم اكتشافنا أنه الحياة الطبيعية التي نعيشها فعلا. أحسست أنني أعرف هذه الممثلة وأحببت أن أروي حكايتها الغريبة من خلال أحداث الفيلم، الذي كلفنا جهدا مضاعفا كونه نفّذ بأجواء خارجية وباردة جدا.. ‘عنها’ فيلم يروي بعمق ما يمكن أن يحمله إنسان ويقدّمه للآخرين، ونرجو أن نوفق بتوصيل ذلك”.

قدّم “عنها” في عروض سينمائية خاصة،  فكان الظهور الأول له من خلال مؤسسة شومان في الأردن التي عرضت الفيلم عبر منصّة إلكترونية على الجمهور، كذلك عرض في المغرب، ثم شارك في الولايات المتحدة في سلسلة عروض جماهيرية تفاعلية. وفي برنامج عروضه أن يُقدّم في العديد من المهرجانات العربية والعالمية في المراحل القادمة.

أجواء العمل كانت حافلة ببعض التفاصيل الاستثنائية، فالفيلم نفّذ في أجواء باردة جدا وفي أجواء خارجية وفي الأماكن الحقيقية لمسرح الأحداث المفترضة، ولأجل تصويره أغلق شارع حيوي في قلب المدينة لمدة يوم كامل، كما تعدّدت أماكن التصوير فيه بين شوارع خارجية ومسرح وملهى وقلعة دمشق المكان الأثري الشهير، كما حفلت مشاهده بملابس تنكرية وأقنعة للوجوه واستخدمت فيه كاميرا الدرون الطائرة.

و”عنها” من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا عن سيناريو وإخراج لرباب مرهج، وتمثيل كل من  فايز قزق وميلاد يوسف وروبين عيسى وكرم شعراني ونجاة محمد وسلمى سليمان ومحمد وحيد قزق وفاضل وفائي.

25 أكتوبر 2021

هاشتاغ

التعليقات